دقيقة أخرى ويفتح الباب وينتهي انتظارها المضني رجفة تسري في العروق وتفتح في الروح اتساعًا لفضاءات لا متناهية إنه يقترب وقع خطواته في أضلاعها رقص هادئ على موسيقى حالمة
خوفًا من العالم الخارجي :
صرير المفتاح ، طقطقة المعدن في وجه الصباح ، تعم أرجاء الدهليز الطويل ، المؤدي إلى مهجع السجينات ، بالنسبة للأخريات لا يعدو الأمر كونه موعد التفقد الصباحي ، لكن الأمر يختلف لامرأة تقبع في ذكرياتها متوجة بالحنين ، متوحدة مع سرها ، الدفين مع خوف قديم أدمنت اخفاؤه منذ الطفولة ، وتجيد الآن اعادة صياغته بمهارة الأنثى المعتادة على ترتيب الأشياء بما يتوافق وعالمها الخاص ، خوفًا من العالم الخارجي
آخر الدهليز :
لحسن حظها يقع المهجع في آخر الدهليز ، تستمتع بوقع خطواته ، جسدها يرتجف تحت الغطاء ، وتبتسم في قلبها ، يسترق النظر إليها ويتكور الجسد تحت الغطاء ، سيتوقف طويلاً عند انحناء فخذيها وتبعثر شعرها على المخدة ، ثم يمضي وحسرة تعتصره ، في احدى المرات شمرت عن ساقيها وتركت لساقها اليمنى حرية الحركة خارج السرير ، على الرغم من برد الحيطان ، إلا أن لذة انتظاره واحتراقها لحظة أدركت أنه وقف أمام المهجع أكثر مما يجب ، أنساها البرد الضارب في عظامها !الفراغ الساكن في أعماقها :
كانت الأمور تمضي دون سؤال ، لم تحاول فهم سبب اهتمامها بالسجان الشاب الذي عين مؤخرًا ، جسده الأسمر ، كتفاه العريضان ، أم الشر المتطاير من خطواته على الممر ؟ ولم يعنها الأمر أكثر من أنه رجل وحيد بين نساء سجينات ثم تلك الرغبة الجامحة في الأنثى لكائن مولود فيها ومنها أدركت عند غيابه بضعة أيام ذلك الفراغ الساكن في أعماقها ، وتسربت إلى أيامها كآبة خفية لم تلحظها رفيقتها في المهجع كانت لا تترك لرأسها مجالاً لمفارقة الوسادة ، كلما تأكدت من عدم مجيئه صباحًا
تداعت أول أعمدة مدينتها الأفلاطونية :
تغرق في الظلام حبيسة عوالم غريبة وشوارع بأضواء وصدر عريض ذي شعر كثيف لرجل داكن السمرة ، لم تتوقف لتسأل احساسها عما يجري لأنها أحبت أن تحس برجل يثبت بقاءها على قيد الحياة ، بعد أن فقدت ارتباطها بالعالم الخارجي ، يئست من حلمها منذ الولادة وحتى اللحظة التي صرخت فيها بوجه المحقق
وهو يضربها لأول مرة ، تداعت أول أعمدة مدينتها الأفلاطونية التي رسمتها للعالم ، وعندما دخلت في عوالم أكثر قذارة وعبودية بهتت روحها وصارت تروي لصديقاتها قصصًا عن عبث ما يحدث ، وأن النضال من أجل تغيير العالم لا يحتاج إلى أناس حالمين ، بل لرجال حرب ودمار ، وبعد زمن انكفأت نحو حزنها ، صار من الطبيعي أن تراها صديقاتها لمدة ساعات جالسة مع وسادتها تاركة لعينيها حرية التحليق في الجدران
حركتها أقرب إلى الجنون :
حالة بقائها مستلقية وعيناها مفتوحتان للسقف ، لم تكن جديدة عليهن ، رغم التغيرات الغريبة التي طرأت وكانت مدعاة التساؤل والاستغراب ، في الصباح تصبح حركتها أقرب إلى الجنون ، تنط من زاوية لأخرى وتغرق في نوبة حديث طويلة دون رابطو مبرر ! تمشط شعرها كالأطفال بينما لسانها يتحرك دون إصدار صوت مع حركة رجليها اللتين تقربهما وتبعدهما بحركة منتظمة وسريعة ، ثم فجأة تهبط من علوها وتستقر في واد من السبات حتى صباح اليوم التالي لتعاود نفس الحركات
خطواته مختلفة عن الآخرين :
اليوم بالتحديد قررت القيام بحركة تلفت نظر السجان السمر إليها ، اقتربت خطواته من المهجع ، نط دمها وعرفته ، خطواته مختلفة عن الآخرين فهو يترك لجسده متعة الهبوط الكامل على الأرض ، همست لنفسها ، لابد أنه فلاح ، وقع أقدامه ينيء بذلك ، سمرته عروقه الزرقاء المنتشرة على سطح يده ، سأقوم بحركة عندما تخرج السجينات ، سأنتظر إلى الأخير وأقرب جسدي بصدره !إياك والهرب :
عيناها مشعتان تحاولان استقراء ملامحه ، وهو ينظر اليها بعد خروج النساء جميعًا ، لم يفصلها عنه سوى ثوان ، أزاحت خطواتها باتجاه اليمين وصارت وجهًا لوجه معه ، بدا نعسًا وثقيلاً على الأرض ، تلألأ في عينيها ، اقتربت وصدرها يسبقها ، رمت عينيها في الأرض وانهمرت على جسده ، تراجع إلى الوراء وأبعدها بحركة قوية منتزعًا سلاحه ومصوبًا مسدسه المصحوب بالصراخ : إياك والهرب ..