والناس من خوف الفقر في فقر .. ومن خوف الذل في ذل .. محمد الغزالي ، انطلق دقات جرس المدرسة ، إيذانا ببدء أول يوم في العام الدراسي الجديد عام جديد من الغربة والقهر والملل والمال أيضًا ، دائما ما ولد لدى هذا اليوم الكثير من المشاعر المضطربة المتضاربة في آن واحد .. تدافع الطلاب الوافدين المقيمين في اتجاهات شتى يبحثون عن صفوفهم الجديدة ، ليصطفوا في النهاية في طوابير متوازية ومتساوية في الساحة الداخلية للمدرسة
الشاب الثلاثيني ذو القسمات المقهورة :
المعلمين اقبلوا مبتهجين يتبادلون التهاني السلامات ، فضلًا عن القصص والطرائف التي جرت لهم خلال شهري الاجازة الصيفية هناك لمحته للمرة الأولى كان شابًا في منتصف الثلاثينات قمحي اللون ، تميل بشرته إلى السمرة وتشي ملامحه بكم القهر والمعاناة التي عانى منها قبل أن يطرق الحظ بابه ، كان يرتدي بنطالًا كاكيًا وقميصًا مشجرًا ذو الوان زاهية ، ومتنافرة وحذاءًا أسودًا باهتًا غطته الأتربة ، كانت ترتسم على وجهه علامات القلق والتوجس والاضطراب
الأستاذ رجب الأجنداوي :
دفعني الفضول الى أن أسأل عن الوافد الجديد ، أخبرني أحدهم بانه زميلنا الجديد في قسم اللغة العربية ، الأستاذ رجب … ومن الأسبوع الأول بدأت عليه علامات الجد والاجتهاد في العمل ، وكثيرًا ما كان يحمل أجندة في يده ، ليعطي انطباعًا لمن حوله بأن العمل هو شغله الشاغل حتى اننا بتنا نسميه الأجنداوي نسبة للأجندة
يضع بصمته الخاصة :
وأكثر ماكان يلفت الانتباه هو حرصه على ارضاء الرؤساء المباشرين ، وأعضاء الإدارة العليا بشتى الطرق ، لاحظنا أنا وغيري عن كثب وكنا نجده أمرًا مبررًا ، فأي معلم جديد لابد له وان يثبت أقدامه بالمدرسة ويضع بصمته الخاصة ، وإلا كان مصيره انهاء خدماته بلا أدنى تردد ، والعودة الى حياة الضنك والمعاناة
كبر وحقارة :
كان كل ذلك عاديًا ، أما ما لم يكن عاديًا فهو محاولته التقرب من رؤسائه بطرق مقبولة ، وغير مقبولة بل ومهنية أحيانًا ، فهو تارة يجلب لهم الهدايا بمناسبة وبدون مناسبة ، وتارة يقوم بدور الجاسوس على زملائه ، وتارة يحكي لهم القصص والنكات ، وكان في نهاية كل شهر ووصول رسالة ايداع راتبه في البنك يزداد كبرا وحقارة
تطلع للمستوى الأعلى :
كان يتعامل مع زملائه على أنه أهم منهم ، وكان كلما تيقن من قوة علاقته برئيس له في العمل ، تطلع للمستوى الأعلى ، حتى أنه كان هناك روايات وغمز ولمز عن قوة علاقته بمدير المدرسة ، ومكوثه في مكتبه لساعات طويلة والمكتب مغلق !كنا نظن ذلك :
كنا دائما نشعر بالإهانة والخزي ، بسبب أفعاله فهو في نهاية الأمر محسوب علينا كواحد من بني جلدتنا ، وكنا على يقين أن الادارة تنظر له نظرة ازدراء واحتقار ، أو على الأقل كنا نظن ذلك
رئيس القسم الجديد :
وذات صباح ، دق جرس الهاتف في قسمنا ، قسم اللغة العربية ، التقط رئيس القسم سماعة الهاتف ، وفوجئ بمدير المدرسة على الطرف الآخر ، ازدرد ريقه بصعوبة بالغة ، وقال بصوت مضطرب : صباح الخير يا أفندم ، ما هي أخبار صحة سعادتك ، أتؤمرني سعادتك ! جاء الرد : هلا أستاذ ، رجاء تسليم مفاتيح مكتبك وملفاتك ، للأستاذ رجب .. رئيس القسم الجديد !.