بينما كانت الطالبة تنظر إلى لائحات موضوعة على واجهات المحال ، في الشارع الساكن ، ساعة الصباح الأولى ، وقع نظرها على لائحة كتب عليها : مكتب خدمات الكمبيوتر
شكوى:
وجهت خطواتها نحو باب المكتب المفتوح ، فسمعت صوتًا يدعوها من الداخل : تفضلي .. صباح الخير ، عند دخولها لمحت شخصًا وسيمًا ، يوحي مظهره إنه في الثلاثين من العمر ، ينهض من خلف جهاز كمبيوتر ، ويقول : أهلا وسهلاً .. قالت : لو سمحت لدي رسالة ، أريد أن تدققها لي لأرسلها إلى السيد وزير التربية ، لكن أريدك أن تعدل صيغتها ، أجابها : وما مضمونها ؟ قالت : شكوى !هز رأسه بالإيجاب وجلس خلف الجهاز ، قالت الفتاة : عمومًا لن أتعبك ، أنا لم أنم ليلة البارحة ، لأني سهرت على كتابة مسودتها حتى طلوع الضوء ، فأرجو أن تعدل فيها ، وتدققها لي بشكل جيد كي أعطيها لأحد جيراننا ، وهو عضو في مجلس الشعب ليأخذها إلى السيد وزير التربية
طالبة المعهد :
في تلك اللحظات أخذ يتأملها وهي تحاول إخراج المسودة ، من حقيبتها المدرسية السوداء ، كانت ترتدي بدلة زرقاء ، تشير بأنها طالبة معهد ، تغطي شعرها بحجاب ناصع البياض يمنح وجهها الأبيض شكلاً دائريًا مشرقًا ، عيناها السوداوات تبدوان كلؤلؤتين تزيدان الوجه المضيء إشراقًا ، غدًا يتأمل جسدها الممتلئ المتناسق مع القامة الوسطى الذي أعطى بريقًا لدخولها
كحمامة تحط بجواره :
كل ما ترتديه كان منسجم في موضوعه يأخذ بريقًا هائلاً منه ، ويضفي عليه بريقًا بديعًا ، من ساعة اليد ، إلى الحجاب ، إلى الحقيبة ، إلى البدلة ، إلى الحذاء ، بدت الملبوسات أمام ناظريه تهندس موضعها وتهندس منه في ذات الوقت بأناقة ولباقة فائقتين ، ولبث لا ينتظر أن تخرج المسودة ، بل ليتعمق تأمله في هذه الفتاة الفتية التي ظهرت كحمامة ، لتحط جواره هذا الصباح وتفضي إليه بسر من أسرارها
رغم برودة الطقس :
هذا الشعور أضفى حرارة إلى جسده ، رغم برودة الطقس ، لكنها قاطعت تأمله وهي تبرز ورقتين مليئتين بالسطور ، وتقول : حتى لا أتأخر ، سأملي عليك ما كتبت وأنت ستدق ، وفي ذات الوقت ستعدل ما تراه ، أجابها : كما تريدين .. عندها انتبهت إلى كرسي صغير بجوار الطاولة ، فجلست عليه وهي تقول : هل أنت جاهز ؟ .. قال بعد أن وضع في أعلى الصفحة الجهة ، ومن ثم اسم الطالبة وعنوانها : تفضلي
مدرس الهندسة :
السيد وزير التربية ، تحية تربوية من طالبة إلى وزيرها وهي تأمل أن يمد يد العون لها ، حفاظًا على مستقبلها الدراسي .. سيدي منذ يومين دخل مدرس الهندسة شعبتنا ، وكفه اليمنى مغلقة ، فاستغربنا للأمر ، إذ أنها المرة الأولى التي يفعلها ، وبدل أن يتجه إلى اللوح ليرسم أشكالاً هندسية للدرس الجديد ، بدل ذلك اتجه إلينا ، وقال : اليوم درسكم في يدي !بهتنا لذلك ولأن شعبتنا مختلطة ، فقد قال أحد الطلاب بدهشة نيابة عنا جميعًا : كيف يا أستاذ ؟ نظر الأستاذ إليه ، ثم وزع نظراته على وجوهنا جميعًا ، والكلمات تخرج من فيه : أمسك بكفي التي في بشكل هندسي .. احذروا ما هو ؟ ثم صمت قليلاً وهو يبتسم وأردف : سأسهل عليكم الإجابة .. إنه شكل طويل
الشكل الهندسي :
وصمت مرة أخرى ، قال طالب : مسبحة أستاذ ؟.. نفي ذلك بواسطة رفع حاجبيه دون أن يتكلم ، إصبع طبشور أستاذ ، قذفها طالب آخر مسرعًا ، وتلقى ذات النفي بخيبة من الأستاذ الذي أوحى له بذلك من خلال هزات رأسه
قالت طالبة : أعطنا معلومة أخرى ، عن هذا الشكل يا أستاذ ، أجاب والبسمة تملأ وجهه : قلت لكم انه طويل ولونه يميل إلى الأحمر لفاتح منه إلى الصفر ، قال طالب : فرجار أستاذ ، ولحقه صوت آخر : قلم تلوين أستاذ ، أجب : كلا .. كلا .. كلا
يرتدي قبعة حمراء :
قالها الأستاذ بإصرار ، والابتسامة ما تزال تزداد اتساعًا في وجهه ثم لفظ : وأيضًا أضيف بأنه : يرتدي قبعة حمراء ! هذه المعلومة الأخيرة ، فجرت الموقف فالتزمت الطالبات بالصمت وكأن ابريقًا من الماء البارد سكب على كل واحدة منهن ، تعالت وشوشات فيما بين الطلاب بين راغب في قول الإجابة ، وبين زاجر له احترامًا لوجود طالبات ، ويبدو أن أحد الطلاب نهض بالفعل طالبًا من الأستاذ الإذن بقولها
مقاطعة الدرس :
فلم أحتمل هذه المهزلة في الصف ونهضت تاركة مقعدي ، متجهة صوب الباب وبينما كنت أمد يدي ، إلى المقبض لأخرج ، انفجر صوته كالرصاص وسمّرني في مكاني ، إذ كيف سمحت لنفسي مقاطعة الدرس والخروج بهذه الفوضوية ، لا أدري لماذا أحس بأنني أهنته ، مع أنني وجميع الطالبات أحسسن بأنه أهاننا ، ولكن ربما لم يتشجعن للتعبير عن استيائهن أو لأمر آخر
سوء ظن :
عند ذلك فوجئنا معًا أن الأستاذ يفتح كفه ، وإذ بعود ثقاب كبريت ، فضحك الطلاب جميعًا ، شباب وبنات ، بينما استبد بي خجل غريب فلا أنا قادرة على مد خطوة نحو الباب للخارج ، ولا مد خطوة نحو الباب للعودة إلى مقعدي ، لم يبقى أمامي سوى أن أقدم اعتذاري الشديد للأستاذ لسوء ظني به
عود ثقاب كبريت :
إلى هنا يا سيدي الوزير ، لا توجد مشكلة ، لكن الذي دفعني إلى كتابة هذا الطلب لسيادتكم هو أن أستاذي دخل في اليوم التالي ، كذلك شعبتنا في درسه ، ويده مرة أخرى محكمة ، والغريب في الأمر أنه أعاد السؤال علينا مرة أخرى قبل أن يشرع في بدء الدرس ، فلم أنهض ، قالت : طالبة مجيبة عن سؤاله ، وهي واثقة في نفسها : إنه عود ثقاب كبريت يا أستاذ .. واستبدت بنا جميعًا دهشة عندما نفي الأستاذ الجواب
نظرات مريبة :
أظننني أطلت عليك يا سيادة الوزير ، ولكن مستقبلي كله يتوقف على هذا الطلب ، ولا أخفي إذا قلت لك منذ الساعة الرابعة مساءًا ، أغلقت باب حجرتي على نفسي ، وبدأت في البحث عن صيغة ملائمة لكي اخاطبك بها ، ولو استطعت أن تنظر إلى الآن لرأيتني أقبع بين تل من أوراق وضوء الفجر بدأ يطل من خلف زجاج نافذتي وأعيد كتابة الخطاب للمرة الثلاثين .. أجل ، يا سيدي الوزير ، فلم تكن إجابة زميلتي الإجابة الصحيحة وعندها لم ينتظر الأستاذ أي إجابة أخرى ، بل راح يتأملاني !! بنظرات مريبة
وكأن شيئًا لم يحدث :
أجل يا سيدي الوزير ، يتأملاني فحسب ، دون جميع الطلاب والطالبات ، وراح يفتح كفه بشكل لا تتصوره يا سيدي كم استفزني ، وإذ بالكف فارغة لاشيء فيها ، وليته اكتفى بذلك ، بل زاد في استفزازي وهو يقول بقسوة لم تقع عليّ من قبل : لقد كان في كفي ما قصدته الآنسة يوم البارحة !
خسر مستقبل أحد أبنائه :
ولم أعد قادرة على الجلوس ، كأن شيئًا لم يحدث ، فنهضت ولا أخفيك بأن رغبة جامحة اشتعلت في داخلي لأقف أمامه أصفعه أمام الطلاب جميعًا ، وأقول له عبارة واحدة يمكن أن تخفف توتري ، ولكنني لم فعل ، اكتفيت بالخروج وتوجيه هذا الخطاب لسيادتكم راجية أن تتكرموا بالموافقة على نقلي لمعهد آخر ، أو نقل الأستاذ ، لأنني لا أتصور أي استيعاب لدرس سيلقيه علينا بعد هذين الموقفين ، وفي حال رفض سيادتكم فإنني سأمتنع عن مواصلة دراستي وسيكون الوطن ، قد خسر مستقبل أحد أبنائه