كانت تجلس خلف مكتبها بجوار النافذة الزجاجية ، تتوسط عمودين من الأوراق المتخمة بهموم العمل ، لا تكاد ترى شيئًا حولها سوي بؤرة الحاسوب المضيئة أمامها
الآنسة ماغي :
صوت لوحة المفاتيح تحت أصابعها يكشف عن مهارة فائقة توقفت قليلاً .. استوعبتني بنظرة شاردة ، انكبت منها على الحقيبة تبحث عن شيء ما، بعد حيرة لم تطل سألتني عن قداحة ، نفيت عن نفسي اعتيادي على التدخين ، فأظهرت تململاً بحنق خرج مع دفعة هواء أطلقتها من فمها الملون ، نادت الساعي بلال بأعلى صوت تمتلكه ، انبثق أمامها في لمح البصر ، تناول منها أمرًا بإحضار قداحة في الحال ، هز رأسه إليها بطاعة
دخان وضوء شمعة خافت :
عاد وقد أحضر لها ما وقع تحت أنياب إرادتها ، سحبت من حقيبتها صندوقًا أنيقًا مرصعًا بفراء حيواني ، أزاحت الغطاء كشفة عن صفين من قضبان السجائر انتزعت واحدًا .. أشعلته احتضنته بين شفتيها ، مدت يدها لإشعال شمعة اسطوانية حمراء ، وضعت أمامها ، ردت ظهرها للوراء ، ثم رفعت رأسها لأعلى ، نشرت دخانها الذي اختلط بضوء الشمعة الخافت ، تشعب داخل الحجرة حتى وصلتني رائحة التبغ المحترق ، عادت لاستيعابي بنظراتها
لست من فئة المدخنين :
سألتني عن اسمي الذي أخبرتها عنه بالأمس أجبت سؤالها ، أقرت بتأكدها من ضيقي لتنفسي رائحة الدخان طالما أني لست من فئة المدخنين ، لم تنتظر ردي حتى أخبرتني بأنها لا تقدر على مواصلة العمل دون مواصلة التدخين ، وطلبت مني عدم اندهاشي لأنها هي من ألصقت لوحة ، ممنوع التدخين ، على باب الغرفة ، إلا أنها هي وحدها من تدخن ، ولا تسمح لأي شخص آخر أن يدخن في حضرتها مهما كان ، فهي تشعر بالغثيان من رائحة دخان السجائر التي تنطلق من أنفاس الآخرين !كصاروخ سقط من فوق مبني :
تداخل مع حديثها صوت هاتفها النقال المسند على قاعدة أنيقة ، جذبته بأطراف أظافرها اللامعة ، تطلعت على رقم المتصل ، قبل أن تضغط زر الاستقبال أظهرت تململاً نوعًا ما ، هذه المرة لم يكن تململها مصحوبًا بهواء ساخن يخرج من فمها ، بل صحبته موجة من السباب خارجة عن عرف الأدب احمر وجهي خجلاً أمام تلك الكلمات ، لم تعطني الفرصة لمواصلة اندهاشي ، أدخلتني في دائرة أخرى بصوتها الذي انطلق كصاروخ سقط من فوق مبني ، وهي تؤنب المتصل ، على الحنث بوعد قد وعدها به بالأمس
المكان المشحون ببركان مجنون :
أغلقت الخط في وجه المتصل ، وعادت حيثما بدأت بسباب وشتائم لا تليق بأنثى ، نادت الساعي ، المسكين انشقت الأرض وخرج منها بلال كعفريت المصباح ، تساءلت عن سبب تأخره عليها من لحظة النداء ، أعقبت تساؤلها بلقب حيوان ، تصنمت الكلمات داخله ، حتى استقبل أمرًا آخر بعمل فنجان من القهوة
استدارت نحو لوحة المفاتيح التي أوشكت على الانفجار ، تقطع من أعمدة الأوراق ، تلصق عليها توقيعها ، ترتشف من القهوة التي لا أعلم متى أحضرها المسكين ، تجذب أنفاسًا من سيجارتها ، تعود للوحة المفاتيح ، حركات متتالية ومتشابهة ، ولدت داخلي شعور بعدم الأمان داخل هذا المكان المشحون ببركان مجنون
الجنون الرابض داخلها :
تمنيت أن أترك العمل ، أبحث عن عمل آخر في مكان آخر ، لكني كنت أتوقف عند حدود متطلبات المعيشة التي لوحت لي من خلف تلك الصور الغريبة ، التي ألصقت بها الجدار من خلفها ، هيأتها الخارجية المطعمة بشعرها الأسود الطويل ، نظارتها الطبية الصافية ، لا تكشف عن هذا الجنون الرابض داخلها سمعتها بالأمس تقص لأحد الزملاء بأنها قامت بالاعتداء على سائق حافلة ركاب قد أغلق عليها الطريق ، فأوشكت أن تصطدم سيارتها بالرصيف ، ظننت أنها تبالغ بقصتها ، فأدخلت عليها بعض الخيال الذكوري الذي تتمناه كل أنثى ، لكن ما رأيته اليوم يؤكد لي صدق قصتها
جرعة جديدة من التعليم :
وينفي انطباع السذاجة عن زميلي الذي كان يصدقها في كل كلمة تقولها ، انقطع صوت تفكيري ، وصوت لوحة المفاتيح بصوت المدير العام الذي اقتحم المكان : صباح الخير ، صباح النور ، كيف حالك آنسة ماغي ؟ على ما يرام ، وأنت أستاذ صابر ؟ الحمد لله ، مرتاح معانا ؟ مرتاح جدًا ، عليك بمتابعة ماغي فأنا شخصيًا أتعلم منها ، أقوم بذلك بالفعل .. وقد تعلمت منها الكثير ، عظيم ، غادر المكتب مناديا الآنسة ماغي التي لملمت بعضًا من الأوراق لتلحق به ، بمكتبه المجاور ، لإعطائه جرعة جديدة من التعليم !