قصة في سبيل الأفق

منذ #قصص اجتماعية

قبل نحو عام انتهت محكومية صديقنا حسن ، كان قد امضى في السجن أربع سنين بسبب من ارتكابه جريمة قتل ، وأظن أن الدخول في تفاصيل الحادث ليس مما يسر ، فقد كان أشبه بظاهرة في غاية الغرابة اذ لم يكن يأمل أي منا أن يقدم رجل مثله اكتسب هذا القدر من الخلق الرفيع والطيبه المتناهية والعلم الغزير على قتل امرأة من قريباته اتهمت بسوء السلوك ، غير أن الحادث قد وقع وسجن حسن وهذا كل شيء .احتفال الخروج من السجن :
في الليلة الأولى من انعتاقه أقمنا نحن أصدقاءه المقربين حفلة مخمورة ابتهاجا بالمناسبة ، فتحوطنا حوله في حانة فاخرة نتفرسه بعيون مستطلعة ، كان هو قد استند إلى الجدار وتركنا نحن الأربعة نواجهه من كل أطرافه ، وعبثا حاولنا اكتشاف تغيير في سحنته ، كان مثله قبل أربع سنوات ، عينان خضراوان تلمعان باستمرار تحوط بهما أجفان مجعدة كثيرًا كأجفان العجائز ، ومحيا قفقاسي أصفر تعلوه وجنتان من صميم بلاد الصين .سنوات السجن :
قال : أمضيت في السجن أربع سنين ، وقد أجريت لي في مستشفي السجن عملية استئصال الكلية ، ولقيت ما لا يقل عن عشرة آلاف سجين ، وشهدت مرتين عملية اعدام ، كان السجن يضطرب في هذه المناسبات وتتضاعف الحراسة وتلغي رخص السجانين وينسب أحدنا لترتيل القرآن عند رأس المحكوم طيلة الليل ، ولكم تمنيت أن يقع على الاختيار غيراني لم يوافق ، كان سواي يتقدمني في كل مرة ، وجربت أن أتعلم حرفة كالحلاقة وصناعة الأحذية فلم أوفق أيضا ، أن أتعلم حرفة في السجن أمر صعب ، فالاسطوانات يبخلون بعلمهم خشية المنافسة وضياع الامتياز .ما حدث في تلك السنوات :
وهكذا جرى الحديث الممتع زهاء ثلاث ساعات حتى شارفنا على الحادية عشرة ، ولا يكاد ضيفنا يفرغ من جواب حتى يسدد اليه أحدنا سؤالا آخر حتى سألناه في آخر الأمر ، وأنت أي شيء كان يضايقك في السجن ؟ ينهد الرجل واختلجت أجفانه وتعاظمت رعشات عينيه ، وقال : جدران السجن لشد ما ضايقتني وأكربتني اني واجهت بآصرتي صدمني جدار صامت أخرس كجدار الموت الذي يصف اليه المحكومون بالإعدام .قبل اطلاق الرصاص عليهم ، تصوروا أربع سنين أو عشرة أو عشرين لا تقع عينا انسان على شيء ، يبعد خمسين ياردة ، كل مرائياتي كانت في الحدود الضيقه ، يا إلهي .. الفضاء هو ضالة السجين التي يتحسر عليها .ثم استرسل قائلا بشكل أمعن في الشكوى وأفجع : ترى لو أخرجونا يوما في الأسبوع تجوب في البراري ونرتاد ضفاف النهر ، ونستجلي الأفق لكم سيكون السجن مستساغا ،ولكن الجدران الأربعة هي ناموس السجن الأزلي ، بل هي الكرب العظيم ، الذي ينشق السجين من ثقله نصفين .الحرية :
اذا أنت في لهفة في للتنقيب عن ضالتك الثمينة ؟ ها أنا ذا قد نلت الحرية ، التي حرمت منها كل هذا الزمن الطويل ، وخرجت إلى الدنيا الفسيحة ودانت لك البراري والضفاف والآفاق فهتف في مرح : هذا مما أريده يا صديقي سأنطلق حتى لا يصدمني جدار ولا يعوقني حارس ولا بوابة من حديد ، الفضاء كله لي أنعم به متى شئت .قلت : هذا عظيم لكنك سوف تضجر ، من غير ونيس ولا جليس وبلا رفيق ، وكنت في قراره نفسي أتوق لصداقة هذا الرجل القفقاسي المحيا ذو العينان الخضراوان .. فقال لي : هل تفضل وتكون معي ؟ يومًا هنا ويومًا هناك ، لا ندع أرضا تعتب علينا ، ولا أفقا ولا ضفة ، بل سياحة شامله في طول المدينة وعرضها ، فوعدته أن كون معه منذ الغد .تنفيذ الوعد :
وفد بررت بوعدي في اليوم التالي ، عقدنا العزم على القيام برحلة تبدأ من محطة الكاظمية حتى كرادة مريم على أن نسلك رصيف النهر ، التقينا في نحو الساعة الواحدة بعد الظهر ، كان الجو رائقًا والسماء متألقة تحت الشمس ساطعة في غاية البهاء ، والنسيم هفافا يمسح على وجهينا في رفق ، كان يوم ربيعي خلابًا حقًا ..سرنا نحو ثلاث أميال في اتجاه سكة حديد فوق أرض فسيحة ، تبعثرت عليها أبراج معامل الطابوق وأبنية صغيرة متباعدة وأكواخ داخنة ، ثم انعطفنا صوب رصيف النهر مستعرضين الماء والشجر وقوارب الصيد وعمال السفن المنهكين في تشييد هيكل سفينة حديدية ، كان الطريق يتمهد تارة ويتوعر تارة أخرى ، حتى بلغنا مبنى كبيرًا ضخمًا .قلت لصاحبي : هذا زورق عمومي ينقلنا إلى الضفة الأخرى .. فاحتج قائلًا : ليس في هذا الجانب ما يمتع النظر ، لنتوغل إلى مسافة أخرى حتى نبلغ موقع استدارة النهر .. فأذعنت لمشيئته وتابعنا السير بتراخ ونصب ، فاتسع أمامنا تيار النهر وانبسطت صفحة الماء تتألق تحت حواجب الشمس التي أخذت تطفل منذ فترة يسيرة ، وقد امتد أمامنا الأفق حيث تتدلى السماء وتشرأب اعناق التلال ، ويمتزج اللون الأزرق باللون الرمادي ..روعة الأفق :
هتف حسن : ها هنا الأفق ما أروعه ، وجعل يتأمله بكثير من المرح ، فقدرت سأعرف معنى الحرية ومعنى النضال لأجلها ، وأصر صاحبي على عبور النهر في أعرض موقع ، لم يكن هناك زورق للأجرة انما كان زورق واحد يتخذه صاحبه في صيد الأسماك ، وهو قديم مرقع دانية حوافيه نحو الماء ، فرجونا الصياد أن ينقلنا نحو الضفة الأخرى فأجاب طلبنا بعد تلكؤ ملمحا بأن زورقه لا يليق بنا وليس مضمون ..مركب الأثرياء المتوحشة :
لم يبالي صاحبي كان مأخوذًا بروعة الأفق الذي سحره وخلب لبه ، ركبنا الزورق وتمايل هنية ، ثم استقام مدفوعًا بقوة المجدافين ، وإذ ما بلغنا منتصف النهر برز لنا مركب بخاري من تلك المراكب البازخة ، التي يتخذها الأغنياء للنزهة ، برز مثل نمر مستوحش يرسل زئيرًا وعربدة ، فخطر لي في الحال أن أخلع حذائي ، وهي عادة حميدة عند دنو خطر الغرق ، اقبلت نحونا موجة قوية لطمت الزورق في جانبه فتأرجح لحظة يسيرة .ثم أقبلت موجة أخرى رفعته كالفنجان بين أصابع اليد ونفذت إلى جوفه دفقه كبيرة من الماء ، فانشأ الصياد يزمجر ويرسل الشتائم ثم كانت موجة ثالثة قلبت الزورق وألقتنا في النهر ، فطفت فوق الموج لحظة ثم غطست وارتفعت كرة أخرى وقد أيقنت من هلاكي .النجاة من الغرق :
كانت أصوات ثاقبة تتناهى إلى أذني ، أشبه بزعيق حاد ترسله حناجر النسوة المفجوعات اللواتي يودعن ميتهن الوداع الأخير ، وأحسست أن يدا فولاذية بالغة القوة تشدني من شعري وأنني أطفو وأتنفس هواء نقي ، وإذ ما صحوت بعد حين وجدت نفسي ملقى على رصيف النهر ، وحولي خلق كثير يتأملونني بإشفاق ، بادرت بالسؤال على حسن .الموت الحتمي في سبيل الأفق :
فأشار رجل إلى النهر وقال : انهم هناك مازالوا يفتشون دون جدوى ، وبعد يومين أخرجوا حسن من النهر ميتًا ، كانت عينيه مغمضتين بشدة ، ولاشك أنهما تحتفظان بآخر رؤية للأفق الوردي ، الذي صبغه المغيب بالقرمز .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك