بدايةً، لا بد أن نسلّم جميعًا بأنّ الكذب قد نال منّا بطريقة أو بأخرى، وبدرجات متفاوتة بيننا زيادةً ونقصانًا، وقلّما نجا أحدٌ من الكذب على مدى التاريخ البشري، ولكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو.. لماذا نكذب؟!
عادةً ما نتّخذ من الكذب طوق نجاة أو جسرًا للعبور إلى ما نصبو إليه من رغبات، فقد نضطر إلى اللجوء إليه تفاديًا لأزمات قد تتطور إلى ما لا يُحمد عقباه، أو حفاظًا على علاقات اجتماعيّة معيّنة، وقد نلجأ إليه طمعًا في تحقيق بعض المصالح الشخصيّة أو المكاسب الماديّة، فيصبح في هذه الحالة عبارة عن وسيلة مبرّرة "مكيافيليًّا" لتحقيق غايات قد تكون نبيلة وقد لا تكون كذلك، وعلى كل حال، فإن الدوافع المذكورة وأمثالها يمكن –على الأقل- أن تُعقل، وإن كان الكذب مرفوضًا..
لكن ماذا لو تجرّد الدافع إلى الكذب من الاضطرار أو الطمع أو أيٍّ من الأسباب القابلة للتسويغ المنطقي عمومًا؟! ماذا لو أن أحدهم يظلّ يرتكب الكذب الذي لا يمكن أن يتسبب تجنّبه في حدوث أدنى مشكلة له أو لغيره، أو تشكيل أي خطر على مصالحه أو مكانته أو علاقاته؟!
هنا قد يتحوّل الكذب إلى حالة مرضيّة تُعرف بـ "الميثومانيا" أو "الكذب المرضي" أو "الكذب القهري".. تم وصف هذه الحالة لأول مرة عام 1891م في الأدبيات الطبية من قبل الطبيب النفسي الألماني "أنتون ديلبروك".
يؤسفني أن أقول لمن اعتراه الملل من القراءة أنّ ما مضى لم يكن سوى المقدمة، ويسرّني أن أدعو المستمتعين بالقراءة إلى استكمالها للتعمق أكثر في موضوعنا، لنتابع..
الميثومانيا
من خلال اطّلاعي على العديد من الكتابات المتعلقة بـ"الميثومانيا"، واحتكاكي بمن أعتقد – على الأقل - أنّهم من أصحابها، أستطيع أن أعرّفها بأنها عبارة عن علّة نفسيّة مزمنة تقوم بتحفيز صاحبها على اختلاق القصص أو الأحداث التي تدور حوله في الغالب، والتي قد يبالغ فيها - بشدة أحيانًا - لإشباع رغبات نفسيّة بحتة، وقد تكون تلك القصص المختلقة مبنيّة على وقائع حقيقية.
قد يكون صاحب هذا المرض على علم بأنه يكذب، وقد يعتقد بأن ما يقوله هو الحقيقة ذاتها، وربما كانت تلك "الحقيقة" هي مجرد كذبة قديمة جعلها التكرار حقيقةً في نظره عن طريق الإيحاء الذاتي، وهنا يكون قد وقع في شِراك "الذاكرة الكاذبة"، وقد تطرّقت لهذا الموضوع في مقالة سابقة.
أعتقد بأن الكثير منكم قد جمعه لقاء بأحد ضحايا "الكذب المرضي" – على الأقل -، وربما لاحظتم أن حديثه عادةً ما يتمحور حول ذاته، فقد يتحدث عن بطولاته، أو شجاعته وإقدامه، أو علاقاته بأصحاب الشأن والوجاهة والشهرة، والتي لم تحدث سوى في مخيّلته الجامحة، وقد يصوّر نفسه على أنه ضحيّة ظلم الآخرين، أو صاحب معاناة معقّدة لن يفلح أكثر الأشخاص ذكاءً وخبرةً في إيجاد الحلول المناسبة لإخراجه منها، والسبب ببساطة أنه لا يريد الخروج من قوقعة الوهم التي قرّر أن يظلّ حبيسها طالما أنها تشكّل مصدر إمداد نفسي له من قبل الآخرين!
وكما ذكرت.. فإن حديث المصاب بـ"الكذب المرضي" قد يتضمّن بعض المبالغات التي تجعل من ذلك الحديث مثار ضحك وسخرية من قبل الآخرين، الأمر الذي يرفضه بشدّة، بل إنّه لم يختلق الأكاذيب إلا ليعكس عن نفسه تلك الشخصية التي لا يمكن السخرية منها أو التقليل من شأنها!
المهووس بالكذب.. لماذا يكذب ؟!
يكمن السبب في أن الكذب يحقّق له نشوة نفسيّة معيّنة، هو لا يكذب طمعًا في الحصول على مال أو جاه أو منصب، هو يكذب لأنه يعتقد واهمًا أنّه يجد ذاته في الكذب، حتى بات الكذب مسألةً وجوديّةً بالنسبة له، يكذب استجداءً لعواطف الآخرين تجاهه، يكذب حتى يحظى بانتباههم وينال ثناءهم ورضاهم، يكذب حتى يثبت حضوره، وكأنّه يصرخ بأعلى صوته: "أنا هنا، أنا موجود"!
في محاولة لتفسير نفسيّة المهووس بالكذب، يقول المتخصص في علم النفس، الدكتور كلود بيلان: "الميثوماني شخص لا يريد أن يخيب آمال المحيطين به، فيدفعه ذلك للمبالغة فيما يقول حتى يستجيب لما ينتظره منه الآخرون".
وقد وجدت إحدى الدراسات أن هناك – تقريبًا - شخص واحد من كل ألف شخص من الجناة اليافعين مصاب بهذا المرض، وأنّ معدّل العمر الذي يبدأ عنده ذلك المرض هو 16 عام، ووجدت أيضًا أن معدّل الذكاء لدى المصابين بذلك المرض يتراوح بين المتوسط وفوق المتوسط، وأنهم يملكون مهارات لفظيّة عالية بخلاف القدرات الأدائيّة.
ذكرت الدراسة أيضًا أنّ %30 من المصابين بذلك المرض قد نشأوا في بيئة منزليّة فوضويّة، حيث يكون أحد الوالدين أو أفراد العائلة يعاني من اضطراب عقلي، وأنّ لدى %40 منهم خلل في الجهاز العصبي، والمتمثّل في الصرع أو اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه، أو غيرها.
علامات تظهر على الكاذب
عندما يشرع الكاذب في تلفيق كذبته، فإن هناك تغيرات حيوية تطرأ بداخل جسمه، الأمر الذي سرعان ما تطفو علاماته على سلوك صاحبه، فيتمكن الخبير من كشف كذبه دون جهد كبير، وهذا الأمر ينطبق على جميع الكاذبين عمومًا، بمن فيهم المهووسون بالكذب.
من تلك التغيرات الحيوية، إفراز الجسم لمادة الأدرينالين التي ما إن تتدفق إلى الشعيرات الدموية للأنف، حتى يبدأ صاحبها بلمس أنفه، وكذلك تتسبب مادة الأدرينالين في تهييج الغدد اللعابية ثم تجفيفها بصورة متواترة، مما يؤدي إلى ابتلاع الريق بين حين وآخر.
أيضًا من علامات الكاذب أنه يضع يده على فمه أو قريبًا منه –ذقنه مثلًا- أثناء حديثه.. وكأنه يقاوم يده وهي تشنّع عليه الكذب وتحاول إسكاته!
حينما يودّ أحدنا تذكُّر أحداث حقيقية، فإنه –في العادة- يتّجه بنظره إلى أعلى الجهة اليسرى، فإن اتجه أحدهم بنظره إلى أعلى الجهة اليمنى، فلا تستبعدوا أنه يقوم بإعداد كذبة دسمة ليلقيها على أسماعكم، ما عدا الأعسر – محدثكم أحدهم - فإن ما ذُكر آنفًا يكون معكوسًا بالنسبة له.
فيما يلي سرد موجز لعلامات أخرى للكاذب:
- التهرّب من التواصل البصري مع المستمع.
- التنفس بوتيرة أسرع من المعدّل الطبيعي.
- التململ.
- التأتأة أو التلعثم.
- كثرة الإرماش.
- التعرق.
ملاحظة هامة : وجود بعض علامات الكذب لدى بعض الأشخاص، لا يعني بالضرورة أنّهم يكذبون، والتسرّع في إصدار الأحكام –عمومًا- يؤدّي إلى عواقب وخيمة؛ لذا وجب التنبيه.
الكذب المرضي والكذب القهري
في العادة، يتم استخدام مصطلح "الكذب المرضي" و "الكذب القهري" لنفس الغرض وبصورة تبادليّة في الوسط الطبّي، في حين يرى بعض المختصّين أنّ "الكذب القهري" يختلف عن "الكذب المرضي" بعدّة فروق دقيقة، منها :
- أن المصاب بالكذب القهري لا يستطيع السيطرة على ولعه بالكذب، ويشعر براحة أكبر عندما يؤثر الكذب على الحقيقة.
- أن المصاب بالكذب القهري يكذب في الأمور المهمة وغير المهمة على حدٍّ سواء.
- أن المصاب بالكذب القهري لا يملك دوافعًا خفيّة خلف تفوّهه بالكذب.
- أن المصاب بالكذب القهري يواجه صعوبةً في قول الحقيقة، حتى بعد انكشاف أمره.
ومن جانب آخر.. فقد يواجه المتخصّصون صعوبةً في تشخيص "الميثومانيا" نظرًا لاختفائها خلف العديد من الاضطرابات النفسية كعرض من ضمن أعراض كثيرة مشتركة، لهذا يتم إخضاعهم لدورات تدريبية تمكّنهم من إدراك وتشخيص ذلك المرض، وقد قامت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيّين بإدراج "الميثومانيا" كأحد الاضطرابات العقليّة في الطبعة الثالثة من دليلها الذي يُعتبر المرجع الأوّل عالميًّا في الطب النفسي، والمسمّى: الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقليّة.
في الختام
أثناء إعدادي لهذه المقالة، لفتني حديث سيّدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابا"، فلعلّ في هذا الحديث ملمحًا نفسيًّا يشير إلى أنّ الكذب حين يتوالى ويتتابع، فإنّه قد يتحوّل إلى "ميثومانيا".. نسأل الله الشفاء لجميع المرضى، ودمتم بخير.