وباء 1918 القاتل .. حصد 50 مليونا في 9 اشهر .. رعب قد يتكرر في اي لحظة




فيما كانت الجيوش المتحاربة تقاتل بشراسة في قلب أوربا أثناء الحرب العالمية الأولى , كان هناك عدو خفي و ‏قاتل يتربص بالبشرية , عدو صغير الى درجة ان العين المجردة لا تتمكن من رؤيته و لكنه اشد ضراوة من ‏جميع الأسلحة الحديثة التي اخترعها الإنسان , سيغزو أجساد ثلث سكان الأرض و يسبب من الوفيات خلال عدة ‏شهور ما لم تحصده الحرب خلال أربعة أعوام , انه وباء الأنفلونزا عام 1918 , الذي شحبت ذكراه و مات اغلب ‏من عاصره فنسيه الناس و ظنوا ان عصر الأوبئة قد انتهى الى الأبد , لكن ظهور سلالات جديدة من الفيروسات ‏مثل أنفلونزا الطيور و الخنازير أعاد الى الأذهان شبح ذلك الوباء المرعب و جعل الكثيرين يتساءلون حول ‏إمكانية حدوثه مرة أخرى.‏

بعض القرى و المدن بلغت نسبة وفياتها 90 % من عدد السكان .. اي ابادة جماعية

في خضم الحرب العالمية الأولى أريقت الكثير من الدماء و استخدمت أسلحة مدمرة جديدة لم يعرفها العالم من قبل كالدبابات و الغواصات و الطائرات و الأسلحة الكيميائية , و بالنسبة للكثيرين في أوربا فأنهم لم يكونوا يتخيلون حدوث أمر أكثر سوءا من الحرب التي كانوا يحترقون في اتونها , لكنهم كانوا مخطئين , فما سيحدث بعد آذار

مارس 1918 سيكون شيئا مختلفا عن كل ما رأوه سابقا و سيحصد من الأرواح البشرية أكثر مما فعلته الحرب بسنواتها الأربع المريرة , لكن هذا الموت الداهم لن يأتي من ساحات المعارك المشتعلة في قلب أوربا بل سيحلق طائرا عبر المحيط ليحل ضيفا ثقيلا على سكان القارة العجوز المنهكين من الحرب.
لم يكن مرض الأنفلونزا شيئا جديدا فقد عرفه البشر منذ القدم , ذكره ابقراط الإغريقي و وصف أعراضه قبل 2500 عام و انتشر المرض عدة مرات كوباء كان أخرها هو وباء روسيا 1889 الذي خلف أكثر من مليون ضحية حول العالم , لكن على العموم , لم يكن ينظر الى الأنفلونزا على انها مرض قاتل , خاصة بالنسبة للشباب الأقوياء و الأصحاء , فضحايا المرض كانوا في الغالب من ذوي المناعة الضعيفة من الأطفال الصغار و كبار السن , لكن هذه النظرة المتفائلة نحو المرض ستتبدل بشكل كبير مع حلول صيف عام 1918 و حدوث الموجة الأولى لوباء أنفلونزا مميت سيعرف لاحقا بأسم الأنفلونزا الاسبانية (Spanish flu

رغم ان اسبانيا لم تكن هي بؤرة المرض , لكن لأنها كانت على الحياد في الحرب لذلك بقيت صحافتها حرة على عكس الدول المتحاربة التي وضعت قيودا صارمة على الصحافة خاصة فيما يتعلق بالخسائر و حجم الضحايا و نتيجة لذلك فأن أخبار المرض التي كانت تتناقلها الصحافة العالمية كانت تأتي في اغلبها من اسبانيا مما جعل الكثيرين يظنون بأن مصدر المرض هو اسبانيا.

كما في بقية أنواع الأوبئة فأنه يصعب تحديد البؤرة الأولى لانتشار المرض , فالباحثين يضعون عدة مناطق محتملة لحدوث الإصابة الأولى مثل الصين و الولايات المتحدة و النمسا إلا إن المرض تفشى لأول مرة على نطاق واسع في معسكر للجيش الأمريكي في ولاية كنساس و بعدها ظهرت إصابات جديدة في عدة ولايات أمريكية أخرى قبل ان ينتقل المرض عبر الأطلسي مع الجنود الأمريكيين المتوجهين الى جبهات القتال في أوربا و من هناك انتشر بسرعة بفضل تطور وسائط النقل و حركة الجيوش المتحاربة ليحصد أرواح ضحاياه في جميع أنحاء المعمورة.

الوباء تفشى على شكل موجات , الموجة الأولى حدثت في آذار

مارس 1918 و كانت شدة المرض فيها معتدلة و تشبه في أعراضها الى حد كبير أعراض الأنفلونزا الموسمية العادية فكان ضحاياها في الغالب هم من الأطفال و كبار السن فيما استرد الشباب و الرجال الأصحاء عافيتهم و شفوا من المرض بسرعة لكن مع حلول شهر آب

أغسطس 1918 حدثت الموجة الثانية التي تغيير المرض خلالها بطريقة دراماتيكية , لقد كان نفس الفيروس بدليل أن المرضى الذين سبق ان أصابوا به في الشهور السابقة تكونت لديهم مناعة ضده , الا انه تحول الى مرض مميت و شديد الفتك بضحاياه , و أصبح الشباب و الرجال الأصحاء هم الأكثر عرضة للإصابة بالمرض و الموت بسببه على عكس الأنفلونزا العادية التي تصيب عادة ذوي المناعة الضعيفة , كما ان أعراض المرض و مضاعفاته تغيرت بشكل ملفت للنظر , فقد كتب احد من عاصروا تلك الفترة قائلا : "إحدى مضاعفات المرض الغريبة هي النزيف من الأغشية المخاطية للجسم , على الخصوص من الأنف و المعدة و الأمعاء , كذلك حدوث نزف من الإذن" , النسبة الأكبر من الوفيات كانت تحدث بسبب حدوث مضاعفات تؤدي الى إصابة المريض بذات الرئة فتمتلئ رئته بالسوائل و الدم و تصبح عملية التنفس صعبة و يموت المريض اختناقا , كان المرض فتاكا الى درجة ان بعض المرضى كانوا يموتون في نفس اليوم الذي تظهر عليهم أعراضه , و قد شاعت الكثير من القصص حول أناس ظهرت عليهم أعراض المرض في الصباح فماتوا و دفنوا في المساء او آخرين سقطوا أرضا فجأة أثناء توجههم للعمل و ماتوا بعد عدة ساعات , إحدى القصص الشائعة آنذاك كانت عن أربع نسوة شوهدن قبل منتصف الليل و هن يضحكن و يلعبن الورق لكن عند بزوغ الفجر ثلاثة منهن كن قد فارقن الحياة بسبب المرض , ساهمت هذه القصص عن طبيعة المرض الفتاكة في إشاعة جو من الرعب فأصبح الناس يبتعدون عن الأماكن المزدحمة و أخذت بعض المتاجر تمنع زبائنها من الدخول اليها و تطلب منهم كتابة ورقة بطلباتهم و تركها أمام باب المتجر , تعطلت المدارس و أغلقت بعض المصانع و الأسواق أبوابها و اكتظت المستشفيات بالمرضى فيما انخفضت أعداد الأطباء و الممرضات للعناية بهم , لقد كانت هناك عوائل كاملة فارقت الحياة او مات عدد كبير من أفرادها و تيتم الكثير من الأطفال و أصبحت جنازة الميت لا تستغرق في أحسن الأحوال سوى ربع ساعة و لا يحضرها سوى بعض ذوو المتوفى و هناك الكثير من الموتى كانوا يبقون بدون دفن لأن رجال الدين و حفارو القبور كانوا مرضى او موتى , اما في جبهات القتال فأن ضحايا المرض من الجنود كانوا يموتون بالجملة و يدفنون في مقابر جماعية , كان الوباء قاتلا و مدمرا الى درجة ان بعض المؤرخين يعتقدون ان المرض اثر في مسار و نتيجة الحرب , فحسب هؤلاء , فأن الأضرار التي لحقت بالألمان و النمساويين نتيجة المرض كانت اكبر من تلك التي أصابت الحلفاء , و ان الكثيرين من الجنود الذين اعتبروا قتلى نتيجة المعارك لم يكونوا ضحايا الأسلحة الحربية و لكن قضوا بسبب المرض.
حسب الإحصاءات فأن ثلث سكان الأرض أصيبوا بالمرض أي حوالي 500 مليون إنسان (حسب تقديرات عام 1918) و ان 10 – 25 % من هؤلاء المصابين فارقوا الحياة أي بين 50 – 100 مليون إنسان و هو ما يعادل 3 – 6 % من سكان الأرض آنذاك , نسبة المتوفين نتيجة المرض قياسا الى عدد المصابين به هي 2 – 20 % في حين ان هذه النسبة تبلغ 0.1 % في الأنفلونزا العادية , النسبة الأكبر من الوفيات حدثت في الأعمار بين 15 – 65 عاما بينما تكون نسبة الوفيات عالية نتيجة الأنفلونزا الموسمية العادية بين الأطفال و كبار السن لضعف مناعتهم , الوباء انتشر في كل العالم و خلف ضحايا في جميع البلدان , حتى الجزر النائية في المحيط الهادئ لم تسلم من ويلاته , في الولايات المتحدة بلغ عدد المصابين 28 % من مجموع السكان و عدد الموتى 675000 , في الهند وصل عدد الموتى الى 17 مليون إنسان , في بريطانيا 250000 و في فرنسا 400000 , في استراليا 12000 و في اليابان 390000 , هناك قرى في ألاسكا و نيوزلندا و مناطق أخرى من العالم بلغ عدد الموتى فيها 80 - 90 % من عدد السكان , و يرجع الكثيرون هذا التفشي المروع للوباء الى عودة الجنود الى أوطانهم من جبهات القتال في أوربا حاملين معهم الفيروس إضافة الى عدم تطبيق الإجراءات الطبية الصحيحة لمواجهة الوباء و أهمها الحجر الصحي للمسافرين المشكوك في إصابتهم بالمرض.

مع بداية عام 1919 بدء الوباء ينحسر و يختفي على نحو سريع , البعض عزا ذلك الى تزايد الخبرة الطبية للتعامل مع المرض و اتخاذ إجراءات احترازية في معظم الدول ضد انتشاره , فيما يرى البعض الأخر بأن السبب الحقيقي وراء نهاية الوباء يكمن في فيروس الأنفلونزا نفسه حيث انه يفقد قوته و صفاته المميتة بالتدريج خلال انتقاله عبر عدة أجسام مضيفة (مرضى).
و رغم الخسائر الثقيلة التي ألحقها بالبشرية الا ان الناس سرعان ما نسوا الوباء و ربما كان لنهاية الحرب و بدء زمن سلم جديد دور كبير في ذلك , فجأة ضاعت ذكرى المرض بعد ان كانت أخباره تطغي على كل شيء حتى ان بعض الباحثين أطلقوا عليه اسم "الوباء المنسي" , لكن مع عودة ظهور فيروس أنفلونزا الطيور و أنفلونزا الخنازير في تسعينيات القرن المنصرم عاد شبح وباء عام 1918 ليخيم على البشرية مرة أخرى و أخذت الجرائد و المواقع الالكترونية تكتب عنه و بدء الناس يعوون مدى خطورة فيروسات الأنفلونزا و حجم الموت و الدمار الذي يمكن ان تنشره في حال تفشت كوباء , كما ان المختبرات و مراكز الأبحاث الطبية حول العالم بدئت في دراسة وباء عام 1918 لمحاولة معرفة نوع الفيروس الذي تسبب بالمرض و كيف نشأ و كيفية انتقاله الى جسم الإنسان و أشكال العدوى و اثر الفيروس على الجسم , و بالفعل تمكن العلماء من إعادة تخليق الفيروس عن طريق عينات حصلوا عليها من جثة امرأة من الاسكيمو قضت في وباء 1918 و دفنت في ثلوج ألاسكا , و قد قام الأطباء عام 2007 بتعريض بعض قردة التجارب للفيروس في احد المختبرات الكندية , نتيجة الاختبار كانت مخيفة و بشعة , لقد بدئت أعراض المرض بالظهور خلال 24 ساعة من تعريض القردة للفيروس و سرعان ما فارقت الحياة بعد عدة أيام , لقد كان التدمير الذي حدث لأنسجة الرئة كبيرا الى درجة ان القرود اختنقت و ماتت نتيجة غرق رئتها بالدماء , و هي نفس الأسباب التي ذكرها المؤرخون عن أعراض و مضاعفات مرض الأنفلونزا عام 1918 , كما ان التجربة فسرت للأطباء السبب في ان اغلب ضحايا المرض هم من أصحاب المناعة القوية و هو لغز كان يحيرهم لعقود , لقد أظهرت التجربة بأن الدمار الذي كان يلحق بأنسجة الجسم لم يكن سببه الحقيقي هو فيروس المرض بل هو نتيجة لحالة من الخلل تحدث في إفراز البروتينات المنظمة لعمل جهاز المناعة و ذلك يؤدي الى تحفيزه بشكل مفرط بحيث يكون رد فعله سببا في تدمير خلايا و أنسجة الجسم و لهذا السبب كلما كان جهاز المناعة أقوى كلما كان تأثير المرض و الفيروس أقوى و أكثر تدميرا.
و يعكف الأطباء حاليا لدراسة كيفية ابتكار طرق جديدة لعلاج فيروسات الأنفلونزا الخطرة في حال تفشيها كوباء مرة اخرى , و رغم الغاية السامية لهذه الاختبارات العلمية الا ان هناك بعض المعترضين عليها بسبب الخوف من ان يؤدي تسرب بعض الفيروسات التي تم إعادة إحياءها الى وباء و كارثة عالمية جديدة.

ملحق حول فيروسات الأنفلونزا
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول فيروسات الأنفلونزا لذلك ارتأينا ان نختم هذه المقالة بشرح مبسط لهذه الفيروسات و أنواعها تساعد القارئ الكريم في استيعاب بعض المصطلحات الطبية التي يكثر تداولها في الصحف و الفضائيات , هناك ثلاثة أنواع من فيروسات الأنفلونزا :

- فيروس الأنفلونزا نوع (A

: اخطر فيروسات المرض و أكثرها فتكا بجسم الإنسان , تعتبر الطيور البرية هي المضيف الطبيعي لأكثر أنواع هذه الفيروسات و تنتقل منها عادة الى الحيوانات كالطيور المدجنة و الخنازير و منها الى البشر و تسبب في حدوث الأوبئة المميتة , سلالات هذا الفيروس تختلف في خطورتها داخل النمط الواحد , فمثلا فيروس عام 1918 كان مميتا و هو من نوع (H1N1

في حين ان سلالة او فصيلة أخرى من نفس الفيروس تسببت في حدوث وباء أنفلونزا الخنازير 2009 تبدو اقل خطورة بكثير.
أنماط هذه المجموعة حسب عدد ضحاياها من البشر هي :

- H1N1 , الفيروس المسبب لوباء عام 1918 و أنفلونزا الخنازير عام 2009 (50 – 100 مليون وفاة

- H2N2 , الفيروس الذي تسبب في حدوث وباء الأنفلونزا الآسيوية عام 1957 (1 - 4 مليون وفاة

- H3N2 , تسبب في وباء هونغ كونغ عام 1968
- H5N1 , الفيروس المسبب لمرض أنفلونزا الطيور , خطر جدا لكنه لم يتحول الى وباء بعد
- H7N7 , يصيب الإنسان و الطيور و الخنازير و الفقمة و الخيول , هولندا 2003

89 إصابة , 1 وفاة

- H1N2 , يصيب البشر و الخنازير
- H9N2 , ثلاثة حالات في هونغ كونغ بين 1999 – 2003 و جميعهم تماثلوا للشفاء
- H7N3 , عدة حالات بين 2002 – 2007 و جميعها تماثلت للشفاء
- H3N2 , حالتين 2004 و تماثلت للشفاء
- H10N7 , الفيروس خطير و لم تحدث إصابة بشرية سوى واحدة في مصر عام 2004

- فيروس الأنفلونزا نوع (B

: هذا النوع لا يحتوي سوى على فصيلة واحدة و لا يصيب سوى البشر و هو اقل خطورة و انتشارا من النوع (A

و لا يتحول الى وباء.

- فيروس الأنفلونزا نوع (C

: فصيلة واحدة و هو اقل انتشارا من النوعين السابقين و هو عادة يصيب الأطفال و تكون خطورته قليلة.

شارك القصة مع اصدقائك

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك