يقول م. ن.: كنت الابن الوحيد بين شقيقات ثلاثة، فأحاطتني والدتي بنصيب الأسد من الرعاية والحنان منذ صغري؛ لتعوضني عن وفاة والدي، التي حدثت بعد ولادتي بسنوات قليلة، وكانت والدتي لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين، وقت وفاته، ترفض كل من يتقدم للزواج بها حتى تتفرغ لرعايتي وأخواتي الثلاث، وتعتذر لجميع أقاربها بأنها وهبت حياتها لتربية أطفالها فقط, ولا تريد خوض تجربة زواج ثانية حتى لا تتسبب في شقائنا .
وكانت تعتمد في الإنفاق علينا من معاش والدي المحدود إلى جانب مساعدات صغيرة كانت تتلقاها من أهلها، ورغم ذلك فقد حرصت على حسن تدبير المصروفات بشكل لا يجعلنا محرومين من أي شيء مقارنة بغيرنا من الأطفال .
وتزوجت شقيقاتي الثلاث لأبقى وحدي في المنزل مع والدتي لتحيطني بكل حنانها وعنايتها، وعندما أصبحت شابًا يافعًا طلبت مني والدتي أن أتزوج حتى ترى أبنائي الصغار، ويفرح قلبها بتربيتهم كحال الأم دائمًا، وكنت أرفض في بداية الأمر خشية أن تنشغل حياتي بإنسانة أخرى، قد تأخذ جزءًا من اهتماماتي الموجهة بالكامل لرعايتها، ولكن تحت إلحاحها، وافقت على مضض وطالبتها بأن تبحث لي عن العروس المناسبة، التي ترتاح إليها وتقبل العيش معها حتى لا أفارقها أبدًا وخلال ذلك فوجئت بشقيقتي الكبرى تحضر إلى المنزل لتقيم مع والدتي بصحبة أطفالها الثلاث بعد أن طلقها زوجها؛ وبذلك زادت الأعباء المادية على والدتي، رغم ما كنت أقدمه لها من راتبي المتواضع لتنفق على مصاريف المنزل، فظننت أنها سوف تصرف النظر عن موضوع زواجي حتى تتحسن أحوالنا المادية، لكن رغم ذلك كله، فقد تشبثت والدتي بضرورة زواجي حتى تتحقق لي السعادة، وقالت: إنها ستعرف كيف تدبر أمر تلك المصاريف غير المتوقعة لأولاد أختي الثلاثة كما كانت تفعل معنا سابقًا بمعاش والدي المحدود، وفعلاً قامت باختيار إحدى قريباتي لتكون زوجة لي، وأعجبت باختيارها لأتمم موضوع الزواج مشترطًا على أهلها أن تقيم زوجتي في منزل أمي.
وبعد شهور قليلة من الزواج، حدثت مشاحنات صغيرة بين زوجتي وأختي الكبرى، وكنت بحكم صلتي العاطفية بزوجتي في صفها دائمًا بالطريقة التي لا تجرح مشاعر أختي، ثم فوجئت بأن زوجتي تشاجرت مع والدتي أيضًا بعد مرور حوالي عام من زواجنا وبأسلوب ملتو نجحت في إقناع كلتيهما أنهما مخطئتان، وهكذا مرَّت المشكلة دون أية رواسب في النفوس.
وبعد ثلاث سنوات أنجبت خلالها زوجتي ولدين بدأت المشاكل تتعمق داخل الأسرة بسبب رغبة زوجتي في الحصول على نصيب الأسد من منزل أمي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة أمي وأختي الكبرى وأطفالها أيضًا، وكان سببًا لمشاحنات مستمرة بتأجير مسكن مستقل لها. وفعلاً، بعد تردد طويل وافقت على تأجير مسكن خاص لنا مما أثار غضب والدتي الشديد لدرجة أنها لم تكف عن البكاء طوال اليومين السابقين لرحيلي، ولم يجفف دموعها سوى أنني أخبرتها بعزمي على القيام بزيارة أسبوعية لها واستمرار المساعدة المالية التي كنت أسهم بها في مصاريف الأسرة.
وفعلاً وفيت بهذا الوعد طوال الأشهر الأربعة الأولى لرحيلي ثم بدأت زياراتي تقل بسبب مشاغل الحياة، واستكثار زوجتي لهذه الزيارات، فما كان مني سوى جعل زيارتي لأمي شهرية حتى أغلق باب أية خلافات جديدة في محيط الأسرة, ثم حدث نتيجة إلحاح زوجتي المستمر أيضًا أن جددت أثاث منزلي بطريقة التقسيط الشهري مما أدى إلى تقليص مرتبي بشكل بدأ يؤثر على مساعدتي الشهرية التي أعطيها لوالدتي، فكنت أزورها مرة واحدة كل شهرين لأعطيها مبلغًا يقل عن ذلك المبلغ الذي كنت أقدمه لها في السابق بصفة شهرية.
وكانت أمي لا تتكلم في هذا الأمر بل تأخذ ما أعطيه لها مكتفية بالدعاء لي، وخلال فترة بقائي البسيطة معها كنت ألاحظ سوء أحوالها المادية خاصة بعد أن كبر أبناء شقيقتي وزادت متطلباتهم اليومية، وكلما حاولت مناقشة زوجتي في تدبير مصروفات منزلنا لإعادة المساعدة الشهرية لوالدتي تغضب بحدة وتتهمني بالجحود لها ولأولادي، وتبدأ في استحداث وسائل جديدة للإنفاق مثل دراجات أو تجديد ديكورات المنزل.
ولم تمض أشهر قليلة على هذا الحال حتى أصبح راتبي الشهري لا يكفي إلا لتغطية مصاريف منزلي وبصعوبة، فامتنعت عن زيارة والدتي عدة أشهر لعدم وجود أية مبالغ مالية معي يمكنني مساعدتي بها كما كنت أفعل في السابق، ولإحساسي بالحرج نتيجة ذلك، فما كان من والدتي سوى الحضور بنفسها إلى منزلي للاطمئنان على صحتي، وهنا أحسست بمدى الرفاهية التي يعيش فيها أبنائي وزوجتي في الوقت الذي تعجز فيه عن الوفاء بمتطلبات أحفادها من أختي الكبرى، فكانت نتيجة ذلك وقوعها فريسة للمرض بعد عودتها إلى منزلها مباشرة.
ورغم أن أختي الكبرى اتصلت هاتفيًا لكي أزورها، إلا أن زوجتي كانت تشير عليَّ بعدم الذهاب، بحجة أن أمي تتمارض طمعًا في المزيد من الأموال، التي يجب علي أن أنفقها في منزلي فقط، وهكذا مرت عدة أسابيع دون أن أذهب لزيارة والدتي المريضة.
وفي أحد الأيام فوجئت بشقيقتي الكبرى تحدثني في الهاتف وهي مجهشة بالبكاء لتخبرني بأن والدتي وافاها الأجل وكانت آخر أمنياتها أن تراني، ومنذ ذلك الحين، وأنا ألازم منزلي استرجع فيه شريط ذكريات الماضي؛ لأبكي بحرقة على ما فرطت فيه تجاه والدتي الحنونة التي لم تحرمني طوال حياتي من شيء، فكان هذا الجحود والنكران من جانبي، وكلما أتذكر أمنيتها الأخيرة بأن تراني تتساقط الدموع الغزيرة من عيني على ما فرطت في حقها، وذلك العقوق الذي أبديته تجاهها .
ولكن هل يجدي الندم شيئًا بعد فوات الأوان؟!
لاتنسى مشاركة القصة والتطبيق مع اصدقائك