لم يبق على طلوع الفجر إلا القليل كنتُ نائمًا في الفراش وإذ بالباب يطرق!! ترى من يكون هذا الطارق؟!! تساءلت مع نفسي...لعله سائل اضطرته الأعاصير والبرد القارس في هذه الليالي الشتوية... إلى طرق بابنا في هذا الهزيع المتأخر من الليل , وقبل أن أدير المفتاح لأفتح الباب... تسمرت يداي ولم أعد أستطيع لها حراكًا... ما هذا؟!! إنني أسمع لهاث إنسان يكاد يهلك من وراء الباب... فتحت الباب بسرعة... وإذا أنا بإنسان متهدم قد هده الألم... وقعد به الإعياء والإرهاق... فأقعى على وركه وهو يلهث ويتنفس بصعوبة...تأملت فيه إذا هو «العم خضر»... ذلك الشيخ المسن الوقور , قلت على الفور: ما الذي جاء بك يا عم خضر في هذه الليلة المطيرة العاصفة؟! غير أن «عم خضر» لم يستطع الجواب... وإنما أشار إلى المدفأة بحاجبيه الكثين الأبيضين , فأدخلته المنزل وأجلسته بقرب المدفأة حتى استعاد توازنه وهدوءه , ثم قال لي: اسمع يا بني!!...وَعِ كلمات عمك الشيخ «خضر» كلمة كلمة... فلعلي ألاقي ربي بعد أيام...وانطلق صوت ابنتي «غرناطة» من الغرفة الثانية ممتزجًا بالبكاء...فتمتم عم خضر قائلاً : هذا بكاء غرناطة... أليس كذلك؟! ليرحمها الله وليرحم معها بنات حواء... فمن أجل غرناطة هذه... تجشمت وعثاء السفر المضني في هذه الليلة التي تراها...سكت «عم خضر» لحظة يحتسي قليلاً من الشاي ثم تابع حديثه قائلاً : أنت تعرف يا بني أنني لم أصغ إلى كلام والدك – مد الله في عمره على طاعته – عندما جاءني مغضبًا إلى قريتي... بعدما أخبرته ابنتي «عائشة» بما عزمت على فعله... من نقله جميع أملاكي إلى ابني «سليمان» وكتابتها باسمه وحده، دون سائر بناتي الأربع اللائي زوجتهن في القرى البعيدة .
وإنما فعلتُ ذلك، كي لا يغنمن بعض المال الذي أجتنيه لابني المدلل «سليمان»... أجل يا ولدي لم أستمع إلى نصائح والدك آنئذ , لأنني كنت في ذروة حمقي، فتصاممت عن صوت الحق، وتجافيت عن دعوة العدالة، ونقلت جميع ما أملك من أموال وعقارات إلى حوزة ابني الغالي «سليمان» وأنا على قيد الحياة، مخافة أن تقاسمه أخواته الأربع في الميراث إذا ما مِتُّ.
وتنهد الشيخ خضر تنهيدة ظننت أن قلبه يخرج معها قطعة قطعة !! ومسح دموعه التي تقاطرت من عينيه، ثم تابع حديثه قائلاً: لم يمض عام يا ولدي على عملي ذاك، الذي قادني إليه هواي وحبي وإيثاري لابني دون بناتي، والذي صرت بموجبه لا أملك من حطام الدنيا شيئًا، حتى رأيت ابني «سليمان» وزوجته يقلبان لي ظهر المجن، وتتغير معاملتهما الحسنة معي، وأخذا يتضايقان من كل قول أقوله... أو عمل أعمله... وبدأ الجفاف والغلظة يظهران في تصرفاتهما معي...وعندما اعترضت على هذه المعاملة السيئة... كان نصيبي تلك الكلمات القاسية من ابني سليمان , لقد قال لي ابني المدلل «سليمان» الذي ضحيت من أجله بكل شيء: اسمع يا عجوز... إن صبرت عليك أنا فإن بنت الناس لن تصبر!! لقد نفد صبرنا من تصرفاتك الشاذة!! وإذا بقيت على هذه الحال فستفارقني زوجتي تاركة لي أولادي الثلاثة، فأرجوك أن تكون عاقلاً متزنًا في أقوالك وأفعالك، ولا تنكد علينا عيشنا .
وأجهش «عم خضر» بالبكاء!! فهدأته فتابع حديثه قائلاً: أجل يا ولدي!!... هكذا خاطبني ابني الغالي «سليمان» , سليمان الذي ضحيت بمالي وحصيلة تعبي وكدي سنين طويلة من أجله.
وأخذت أفكر طويلاً في عمل حاسم... أستطيع به رد كرامتي واعتباري، الذي أهدره ولوثه ولدي المدلل , فكرت في الحصول على بعض المال لإصلاح بعض شأني، فذهبت إلى بعض مستأجري معاصر الزيتون من ابني أطلب منه بعض المال على الحساب، فاستمهلني دقائق، جاءني بعدها بصحبة ابني «سليمان» وهو يرعد ويزبد ويتوعد بالويل والثبور .
فرددت على «سليمان» بقسوة، فما كان منه إلا أن رفع يده عليَّ وصفعني صفعة ما أزال أحس وقعها المخزي الأليم حتى الآن!! ثم أخذ بتلابيبي وجرني كما يجر حماره إلى خارج قريتي!! وهددني بالقتل إن لم أغادرها من فوري!! غير أني لم أستجب لتهديده... متحديًا له... وراجيًا أن يقتلني فيبوء بإثمي... فيذهب بخزي الدنيا والآخرة!!
وسكت عم خضر قليلاً يلتقط أنفاسه... ثم تابع حديثه بصوت حزين : غير أن «سلميان»!! «أرسل إلى أخته "عائشة" المتزوجة في إحدى القرى القريبة، يطلب منها أن تحضر لتأخذني معها قبل أن يقتلني!! وبالفعل جاءتني ابنتي "عائشة" ومعها زوجها "سعيد"... وأخذا يرجواني أن أذهب معهما إلى منزلهما لأكون لهما الأب والسيد وكل شيء في وجودهما .
لقد ألحا عليَّ في ذلك، حتى أن "سعيد" زوج ابنتي، أكب على قدمي يقبلها كي أوافق على الذهاب معهم إلى بيتهم , ونزلت على رأيهما مكرهًا لا مختارًا، وغادرت قريتي التي طالما قضيت فيها عمري، وتركتها لابني العاق ولزوجته اللذين لا يطيقان تصرفاتي الشاذة كما يزعمان!! بقيت أسابيع في بيت ابنتي "عائشة"... لقيت خلالها أكرم ضيافة وخير معاملة، لقد عاملني صهري "سعيد" معاملة كنت أرجو لو أن ابني "سليمان" الذي أعطيته تعب خمسين سنة، وظلمت في سبيله نفسي وبناتي، كم رجوت أن يعاملني ابني بمثلها!! كنت أنا في بيت صهري كالمتقلب على الجمر، فعزمت على الرحيل عنهما وفي هذه الليلة الشاتية تركتهما نائمين في جنح الظلام، وتوجهت إلى قريتي التي أخرجت منها مظلومًا مقهورًا , غير أني ما كدت أصل إلى قريتي وأتوجه إلى بيتي، إلى داري التي بنيتها بجهدي ومالي وتعبي , حتى شعرت بي زوجة ابني فأخذت تصيح بصوت مرتفع... حرامي... حرامي... فقام «سليمان» ابني إلى عصا كانت بجواره... وأخذ يضربني ضربًا موجعًا بها، وأنا أصرخ: أنا أبوك يا سليمان !! ولكن «سليمان» تجاهل كل ذلك، واستمر في الضرب حتى سقطت مغشيًا عليَّ وقد فقدت الوعي والشعور .
وعندها أيقظ «سليمان» أحد عماله، وأمره أن يصطحبني معه إلى بيت ابنتي «عائشة» في القرية المجاورة. وأكد عليه ألا يتركني حتى يوصلني إلى بيت صهري سعيد!! وألا يتركني إلا بعد أن يستوثق من سعيد أنه لن يتركني أعود إلى قريتي الحبيبة مرة أخرى , وسرت مع العامل الذي كان يومًا ما عاملي وأجيري، فرجوته أن يوصلني إلى بيتكم هذا لأقص عليكم قصتي التي خرجت منها بلعنة الله والناس!! ولأقول لك يا ولدي العزيز: إياك يا بني أن تؤثر وتفضل ولدك «أسامة» على ابنتك «غرناطة» فأنت بذلك تضر نفسك وأبناءك من بعدك، وستبوء بلعنة الله والناس , وما كاد «العم خضر» يصل إلى هذا المقدار من الكلام، حتى كان الإعياء قد نال منه، فاستأذنني أن ينام عندي هذه الليلة , وأسلم جفونه للنوم... وأنينه المكبوت الذبيح يتناهى إلى مسامعي مصحوبًا بهذه الكلمات : سعيد... سعيد... أنت ابني يا سعيد
لاتنسى مشاركة القصة والتطبيق مع اصدقائك