معاملة الخدم في الإسلام ، معاملة ليّنة مُغلّفة بالرفق والمودة والتراحم ، وكلنا نعلم كيف كان الهادي البشير صلى الله عليه وسلم يعامل خدمه بمنتهى العطف والحب الإنساني العظيم .هكذا دعانا إسلامنا العظيم إلى احترام آدمية الإنسان وتقدير أي عمل مهما كان صغيراً ، فالعمل عبادة واليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى ! لكن ما بالنا نجد بين ظهرانينا أقوام نزع الله الرحمة من قلوبهم فصاروا كالوحوش الضارية لا تتورع عن نهش لحم أخيهم الإنسان دون وازع من ضمير أو دين !
مأساة اليوم حدثت بالفعل منذ سنوات قريبة للفتاة البائسة ضحى التي جائتني وكل أحزان الدنيا في صدرها تقول : أنا فتاة في السادسة والعشرين من عمري ، أدرس في السنة الأخيرة بكلية الآداب ، منذ 6 سنوات توفي أبي بعد إحالته للمعاش ، فتحمل أخي الأكبر مسئولية الأسرة كلها ومسئولية الإنفاق عليّ أنا وأمي وشقيقي الأصغر وسداد إيجار الشقة وأقساط بعض أثاثها ونفقات دراستي ونفقات تعليم شقيقي وتكاليف معيشتنا جميعاً مع المعاش الهزيل الذي تركه لنا أبي بعد رحيله يرحمه الله .
لقد أحسست في داخلي بثقل العبء الذي يتحمله أخي بمورده المحدود رغم أنه لا يشكو ولا يتذمر ، فقررت أن أبحث عن عمل خلال الأجازة لأسهم معه في حمل العبء ولأجد ما أنفقه خلال العام الدراسي الطويل، فبدأت أبحث عن وظيفة في أبواب الوظائف الخالية بالصحف وأذهب إلى أصحاب الإعلانات فأجدهم جميعاً يطلبون خبرة سابقة وإجادة اللغة الإنجليزية ومعرفة الكمبيوتر ، وللأسف الشديد كل ذلك لا يتوافر لي ، فأعود من حيث أتيت ! في غمرة يأسي هداني تفكيري إلى وظيفة لا يُطلب ممنْ يقومون بها كل هذه الشروط وتُنشر الإعلانات عنها كثيراً ، ما أن قرأت إعلاناً عنها حتى اتصلت برقم التليفون المنشور في الصحيفة وحصلت على العنوان وذهبت إليه ، فاستقبلتني صاحبة البيت وقدمت نفسي لها فارتاحت لي من الوهلة الأولى وسألتني عن خبرتي السابقة فصارحتها أن خبرتي الوحيدة اكتسبتها في بيتي ، ورويت لها ظروفي فتأثرت بها وصممت على أن تمنحني الوظيفة بغير أن تسأل عني أو تتحقق مما قلت !
هكذا بدأت عملي الجديد لأول مرة كخادمة لدى أسرة كبيرة أذهب إليها في العاشرة صباحاً وأظل واقفة على قدمي حتى التاسعة مساءاً ألبي مطالب الصغير والكبير ، الزائر والمقيم ولا أجيب إلا بكلمة حاضر .. نعم ولا تفارق الابتسامة شفتي أبداً وصاحبة البيت سعيدة بي وتضحك في وجهي وتفتخر بي أمام صديقاتها وزميلاتها في العمل بأن لديها شغالة في اللبيت !!
لم يكن ذلك يزعجني ، فلقد قبلت العمل وأنا أعرف طبيعته ومؤمنة بأنه أفضل وأكرم عند الله من أي شيء آخر يغضبه ، كما أنه أفضل وأكرم عنده من أن يمد الإنسان يده يطلب المساعدة من المخلوق ، فاليد العليا أحب عند الله من اليد السفلى !
رغم ذلك لم أستطع أن أصارح أحد من إخوتي بطبيعة عملي وقلت للجميع أنني أعمل سكرتيرة ، حتى أن صديقاتي بالجامعة تعجبن من نجاحي في الفوز بوظيفة سكرتيرة وأنا لم أحصل على الشهادة ولا أعرف الكمبيوتر ولا أجيد أي لغة !
مرت الأيام وأقبلت على عملي بحماس ونشاط ولم ترهقني قسوته ولا طول ساعاته ، إنما أرهقني فقط جفاء زوج صاحبة البيت ، فقد كان يتعمد إساءة معاملتي خاصة أمام الضيوف ، على عكس زوجته الطيبة الرقيقة ، فقد كان زوجها رجلاً عصبياً غضوباً لا يستطيع أن يتحكم في انفعالاته أو لسانه ، فبدأ يوّجه شتائمه لي بسبب وبدون سبب ، وزوجته المحترمة تحاول كبح جماحه وتذكيره بأني طالبة جامعية وغلبانة ، وأن الدنيا غدّارة لا أمان لها ولدينا أولاد لا نعرف ماذا ستفعل بهم الدنيا .... قالت له الكثير والكثير ولكن لا حياة لمن تنادي !!
استمر زوجها يوّجه لي سباباً مقذعاً أقابله بالصمت والبكاء ، وزاد من معاناتي أنني كنت لا أستطع أن أشكوا لأحد من أسرتي أو صديقاتي مما أعانيه لأني أخفيت عملي عن الجميع فزادني الكتمان معاناة وآلاماً ! حتى أنني كنت أبيت بعض الليالي مسهّدة القلب في فراشي وأقسم أنني لن أعود إلى هذا البيت ، ثم تشرق الدنيا بنور ربها فأجد نفسي ارتدي ملابسي وأتوجه للعمل ، الى أن جاء يوم مشهود واستقبل رجل البيت قاسي المشاعر بعض الضيوف وقمت على خدمتهم جميعاً بكل همة ونشاط ، لكن خوفي من إهاناته المتوقعة في أية لحظة أربكني فوقعت مني صينية المشروبات على الأرض ، وفوجئت به ينهض منفعلاً ثم يهوي على وجهي بصفعة شديدة أمام الضيوف وهّم أن يكررها لولا أن نهض أحدهم بسرعة وأمسك به وأعاده للمقعد وقال لي متألماً : اذهبي أنت الآن يا بنتي !!!
انصرفت إلى المطبخ ودموعي تسبقني .. خلعت المريلة التي كنت ارتديها وقد فاض بي همي وأدركت أنه لم يعد لي بقاء في هذا البيت !..جائتني السيدة المحترمة صاحبة البيت متألمة مما حدث لي ، فقلت لها أنني لم أعد أحتمل أكثر من ذلك رغم شدة حاجتي لمرتب الوظيفة واعتذرت لها عن الاستمرار في العمل فقبلت عذري وأعطتني مرتبي وزادته منحة أخرى منها ثم ودعتني بحرارة .
عدت إلى بيتي مقهورة يائسة ، فقد انقطع مورد الرزق الذي كنت أساعد به أسرتي ، والآن قد بدأت الدراسة وتحتاج لمصاريف كثيرة وأنا عاجزة كسيرة النفس لا أدري ماذا أفعل ؟!!
تلك كانت مأساة الشريفة المكافحة ضحى التي شاء سوء حظها أن تعمل لدى هذا الجِلف الكبير الذي هو أقرب لأخلاق البهائم منه لأخلاق البشر !!
وأكاد أجزم أنني شعرت بالصفعة التي هوت على وجه المسكينة ضحي وكأنها هوت على وجهي أنا وعلى وجه البشرية جمعاء ! أين ذهبت قيم التراحم والتكافل واحترام حقوق الإنسان وتقدير العمل الشريف مهما كان صغيراً ؟!
إلى متى نعامل بعضنا البعض بمنطق العبيد ؟... القوي يستعبد الضعيف والكبير يحتقر الصغير !
إن كارثة أمثال هذا الجِلف الكبير أنهم يسيئون إلى الحياة بتصرفاتهم الحمقاء مما تسمح لهم عقولهم الضيقة بتصوّره إن كانت لهم عقول بالأساس !... هؤلاء هم أقرب إلى الحيوانية منهم إلى الإنسانية ، فمن الفوارق الأساسية بين الإنسان والثور أن الإنسان يستطيع أن يضبط نفسه ويردها عن الحمق والاندفاع حين يشاء ، في حين لا يستطيع الثور ذلك إذا هاج وانطلق من عقاله !!
خطورة أمثال هذا الجِلف الكبير أنهم يهدمون المثل العليا عند الشباب ويفقدونهم الأمل والإيمان بجدوى العمل الشريف واحترامه ورد فعل ضحى كان رد فعل طبيعي للغاية ، فكيف لها أن تستمر في العمل لدى ذلك الجِلف المتكبر !
ألم يعلم ذلك الثور الهائج أنه ليس من حق رب العمل مهما كان منصبه أن يمتهن كرامة من يعمل عنده ؟!!
أمثال هؤلاء الأعاجم يتصورون دماثة الخلق ضعفاً ويغريهم هذا بالتمادي في العدوان على الآخرين ، في حين أن الأخيار من عباد الله وهم كُثر ولله الحمد , يأسرهم التهذيب وتغريهم الأخلاق الكريمة باحترام أصحابها والاعتراف بقيمتهم وأهميتهم في إشاعة جو الرحمة والتسامح وكل القيم النبيلة .
كان الله في عون المسكينة ضحى ، وندعوه عز وجل أن يسّخر لها من عباده منْ يساعدها دون امتهان كرامتها وهذا هو واجب الوطن تجاه أبنائه الكادحين ! أين منحة الجامعات للطلاّب غير القادرين ؟... أين دور رجال الأعمال العرب في وطننا العربي الكبير ، أم أنهم تفرغوا فقط للسرقة والنهب والجري وراء الغواني والراقصات ؟!! أين دور مؤسسات المجتمع المدني في مساعدة هؤلاء الطلاب المساكين؟!
أين دور المؤسسات الدينية في نشر الوعي الإسلامي الصحيح والدعوة إلى مساعدة هؤلاء المساكين من طلبة العلم بأموال الزكاة والنذور وغيرها الكثير والكثير من أوجه البر والإحسان ؟.. أم تراهم لا يستحقون ؟! الأسئلة كبيرة وكثيرة والإجابات ضائعة .. تائهة !! حسبنا الله ونعم الوكيل ...