لقد بكى أحد الحكماء ولده فقيل له أتبكي وأنت أعرف الناس بأن الحزن لا يفيد ؟! فقال إن هذا بالذات هو ما يبكيني ! وهكذا نفعل بغير إرادة فنبكي ونحن أعرف الناس بأن الحزن لا يرد غائباً ولن يعيد راحلاً ، ولا بأس بذلك ولكن في حدود المعقول حتى تستشفي الصدور ، ولو تحمل المرء الأحزان لكان أفضل .. لكن من يستطيع ذلك إلا ذو صبر عظيم ؟! الابتلاء حق لا مرية فيه وأكثر الناس ابتلاء في الدنيا هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وهكذا ، وكل ما يصيب الإنسان مما لا حيلة له فيه يُحسب له ويجزيه الله عنه في الدنيا وفي الآخرة خير الجزاء .
حسني شاب في مقتبل العمر ، تعرف خلال دراسته الجامعية على سلمى تلك الفتاة السورية المقيمة في مصر مع أسرتها وارتبط معها بعاطفة حب قوية صادقة وقرر أن يتزوجها ، لكن لم يكن الأمر سهلاً على الأسرتين ، فلقد كانت أسرتها تفضل لها الارتباط بأحد أبناء وطنها كما كانت أسرة حسني تفضل له الارتباط بإحدى قريباته أو بنات بلده ، لكنه وسلمى أصروا على تحقيق سعادتهم واتفقا على أن يقوم كل طرف بإقناع أهله بشتى الطرق واستغرق الأمر منهم عدة شهور أديا خلالها الامتحان ونجحا معاً .
ذات يوم دعته سلمى لمقابلة أبيها وهو تاجر متوسط الحال يقيم في مصر منذ سنوات بعيدة ، فتوجه حسني إليه في مسكنه بحي الغورية الشعبي بالقاهرة ، وهناك استقبلته سلمى على الباب بابتسامة مشرقة ورحّب أبيها بالشاب وتحدث معه وسأله عن أسرته وإمكاناته ، وعندما همّ بالانصراف فاجأه الأب بقوله : بل انتظر حتى تتناول طعام العشاء مع أسرة خطيبتك .
كانت تلك العبارة موافقة صريحة من والد سلمي على الزواج ، فلم يشعر حسني بنفسه إلا وهو يعانقه ويقّبله والأب يضحك بصوت عالِ وسلمي وأمها لا تسعهما الفرحة !
انصرف حسني سعيداً وفي اليوم التالي اصطحب أباه الموظف الكبير بالحكومة وأمه إلي بيت أسرة سلمي للتعارف وقراءة الفاتحة .
عندما دخلت سلمى الصالون ببشرتها العاجية وعيونها الخضراء وجمالها الهادئ ورأتها أم حسني حتى هتفت بغير وعي : تبارك الخلاق فيما خلق ، وفتحت لها ذراعيها ، أما والد حسني فلم يستطع أن يداري دهشته لجمال سلمي ورقتها ، وجمع الله بين قلوب الأسرتين ، فأحب والد الفتى أبو سلمي وصارا صديقين وفيين ونشأت صداقة عميقة بين أم حسني وأم سلمى .. وعلى الفور سعى والد حسني لتعيينه وتعيين سلمي في إحدى الهيئات العامة واستطاع حسني الحصول على شقة مناسبة في حي راق بالقاهرة وتم الزفاف في حفل عائلي صغير ، وبدأ مع سلمي حياته الجديدة وبالعِشرة اكتشف حسني في زوجته صفات رائعة كثيرة وعرف أنها أستاذة في فن الطهي خاصة الأصناف الشامية ، ولديها مهارات خاصة في التدبير المنزلي وفي الحب ورعاية زوجها ، فسعد بها حسني سعادة لا توصف ، أما أمه فكانت لا تنادي سلمي إلا بالسنيورة وأحبتها حباً عميقاً وأحبتها زوجة ابنها بإخلاص .
مرت الأيام ومضت الحياة بالزوجين حافلة بالمحبة وبالمسرات العائلية ثم حملت سلمي ووضعت طفلة صورة طبق الأصل
بالكربون) من أمها بعيونها الخضراء وبشرتها البيضاء وأضافت إلى جمالها شيء آخر هو شعرها الذهبي الأصفر ! وطارت جدتها أم حسني بها فرحاً وأسمتها بالخوجاية لجمالها الأوروبي اللافت للنظر ! أصبحت الطفلة سوزان محور حياة الأسرة كلها ، الجميع يهتم بها ويتابع نموها وبدء حركتها وكلامها وشقاوتها وأمراض الطفولة المعتادة ، ومضت خمسة أعوام سعيدة قرر خلالها الزوجين تأجيل الإنجاب لظروف الحياة الصعبة وحتى يتمكنا من توفير مبلغ مناسب يسمح لهما بمواجهة رعاية طفلين .
وفجأة وصل إليهم خطاب من الهيئة التي يعملون بها تخطرهم بأنها ستضطر آسفة للاستغناء عن خدمتهم خلال ثلاثة شهور فقط !
كانت الصدمة قاسية عليهم ، لكن سلمي تماسكت رغم حزنها واستقبلت الأمر بهدوء وشدت من أزر زوجها الذي حاول والده إيجاد عمل آخر له دون فائدة ! وحاول حسني من ناحيته البحث عن عمل والدخول في كثير من المسابقات دون جدوى ، ولم تتغير زوجته سلمي مع تغير الحال إنما ازدادت رعاية له وبحكمتها الفطرية خفضت مصروفات البيت كثيراً ، واشترى حسني سيارة مستعملة واشتغل عليها وأكرمه الله وحقق منها دخلاً معقولاً .
مرت الأيام سريعاً والفتي يعمل بجد وتفان وأبيه من ناحيته يواصل اتصالاته مع زملائه السابقين الذين عملوا في الخارج لإيجاد فرصة عمل لولده حسني ، وأخيراً جاء الفرج بواسطة أحد زملاء الوالد الذي ساعده في الحصول على إجازته للسفر إلى الخارج وفي تجديدها له أكثر من مرة وأثمرت معه العِشرة الطيبة وأرسل يستدعي حسني للعمل تحت رئاسته في دولة الإمارات .. كانت فرحة كبيرة للأسرتين ، وباع حسني السيارة وأنهى إجراءات سفره سريعاً وذهب إلى عمله الجديد بالإمارات ، وهناك بدأ حياته الجديدة وعندما استقرت أحواله وحصل على مسكن مستقل ؛ استدعى زوجته سلمي وطفلته
الخوجاية) سوزان ، وفي اليوم الموعود ذهب مبكراً إلى المطار لانتظار الطائرة التي ستحمل الأحباب ، وعندما لمح زوجته سلمى صرخ منادياً عليها ؛ لكنه لاحظ أنها بمفردها تدفع أمامها عربة يد فوقها حقيبة واحدة ولم ير طفلته الغالية معها ، ومن نظرة عينيها المنكسرة عرف أن ابنته الحبيبة قد انتقلت إلى رحمة الله ! ورغم ذلك سألها في لهفة : أين الخوجاية ؟! فلم ترد عليه ، فسألها بحدة : فين سوزان ؟! فترددت قليلاً ثم قالت : اللي خدها من قدامك .. ياخد حبها من قلبك!
يا إلهي ... هكذا فجأة وكاد يُغمى عليه من هول الصدمة ووقف مذهولاً ؛ وكان موقفاً عصيباً على الزوجين ، وفي الطريق من المطار علم من زوجته أن ابنته الجميلة بنت السابعة التي كانت تمتلئ نشاطاً وحيوية قد هاجمها مرض غريب وارتفعت حرارتها كثيراً وانتهى كل شيء في عشرين يوماً ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون .. لقد نفذ سهم القضاء قبل حضور زوجته إليه بأسبوع واحد ، فرأت سلمي عدم إبلاغ زوجها في حينه لتوفر عليه أسبوعا من الجحيم ! وخيّم الحزن الثقيل على العش السعيد الذي تصور حسني أنه سيجمع شمله مع ابنته الحبيبة وزوجته .
هكذا شاءت إرادة الله أن تخيّم الأحزان بظلها الرمادي على تلك الأسرة المكافحة السعيدة ، ورغم كل شيء فلا مفر من أن نواجه أقدارنا بشجاعة ومن الحكمة أن نحاول تحجيم خسائرنا والزمن في النهاية كفيل بمداواة الجراح ، ولكل جذوة ألم أوان تخمد بعده ، فالأعزاء الراحلين في قلوبنا دائماً وإن اختفت صورتهم من الحياة ، هكذا تعلمنا من إيماننا وصبرنا على المحن والابتلاءات .