بعض الناجحون لا يجنون ثمار نجاحهم على الفور ، وقد يموتون ولايرونه أبدًا ، بل وقد يواجهون العديد من الإحباطات المتتالية لأعمالهم ، ومن بين هؤلاء ، الكاتب الروائي هرمان ملفيل صاحب رواية موبي ديك الشهيرة .الرواية :
تحكي الرواية عن القبطان أهبا ، ذلك الرجل العجوز الذي يسير على قدمين إحداهما خشبية ، تلك القدم التي كانت محور الرواية الرئيس ، حيث فقدها القبطان أثناء رحلة بحرية له ، في وسط المحيط ، وعقب مطاردة مع أحد الحيتان الذي كان قد التهم تلك الساق .وعقب مرور بعض الوقت قرر القبطان أهبا ، الانطلاق إلى عرض البحر من أجل اصطياد بعض الحيتان ، والحصول على زيوت كبدها ، فهو الأكثر طلبًا والأعلى ثمنًا ، وجهز طاقمه ، وانطلق في عرض البحر لأجل هدفه الخفي .عندما وصل القبطان برفقته البحارة لمكان ما ، أعلن عن مكافأة ضخمة لمن يأتيه بالحوت الأبيض ، الذي كان قد التهم ساقه ، وأمام تلك المكفأة بدأ البحارة يبحثون عن هذا الحوت ، إلى أن وجده أحدهم ، ومن هذا الوقت اندلعت مطاردة عنيفة ، بين القبطان وهذا الحوت الذي أطلق القبطان عليه اسم موبي ديك ، ولكن المواجهة لم تكن في صالحه أبدًا .فقد استمرت المطاردة طويلاً ، مع هذا الحوت الخبيث الذي استطاع الإفلات من القبطان ، وانتهت القصة بمأساة للقبطان وبحارته ، في شرح واضح للخلاف بين الإنسان والطبيعة ، والعلاقة العنيفة بينهما .لم تنل قصة موبي ديك ، الاستحسان اللازم كما أراد ملفيل ، حيث نشرها عام 1851م ولكنه أصيب بخيبة الأمل ، عندما تعرضت روايته لانتقاد لاذع ، وتجاهل تام من النقاد بالوسط الفني ، مما دفعه لترك الكتابة والاتجاه للعمل موظفًا عاديًا بالجمارك ، حتى توفى بنهاية القرن التاسع عشر .لم تحظ رواية موبي ديك بالشهرة ، سوى عام 1907م عندما اختيرت للنشر ، بإحدى الدور الشهيرة ثم تم اقتباسها في العديد من الروائع السينمائية ، منها فيلم قلب البحر In The Heart Of The Sea ، وهو فيلم أمريكي من إخراج رون هاورد ، وبطولة الممثل الشهير كريس هيمسورث وأُطلق هذا الفيلم في عام 2015م .وما لا يعلمه الكثيرون ، هو أن هيرمان ملفيل كان قد اقتبس روايته ، من أحد البحارة الناجين من هذا الحادث ، والذي روى له تلك الأحداث تفصيلاً .رحلة السفينة إيسكس الحقيقية :
بنيت السفينة إيسكس في عام 1799م ، بلغ طولها 27 مترًا وكانت تحمل خمسة قوارب صغيرة للنجاة ، وكانت تلك السفينة تحمل سمعة ناجحة للغاية ، على الرغم من صغر حجمها مقارنة بسفن صيد الحيتان الأخرى .وفي أحد أيام أغسطس من عام 1819م ، خرج أهالي جزيرة ناتوكيت الأمريكية ، اتوديع البحارة والقبطان وطاقم السفينة ، قبل انطلاقهم في رحلتهم الأخيرة ، وانطلقت السفينة نحو هدفها ، عند الجانب الغربي من المحيط الهادئ حيث تتواجد حيتان العنبر ، باهظة الثمن .ولكن أثناء الطريق تعرضت السفينة إلى عاصفة شديدة ، أغرقتها وأتلفت أشرعتها ، وتحطم جزء كبير للغاية من صاري السفينة ، ووصل البحارة وجهتهم عقب مضي خمسة أشهر من انطلاقهم ، وقد اعتبر البحارة ما حدث سوء حظ شديد لهم .عقب وصولهم لم يجدوا الحيتان نظرًا لتأخرهم عن الموعد المطلوب ، وهناك صادفتهم بعض السفن ونصحهم البحارة بأن يذهبوا نحو الشمال ، حيث تقبع الحيتان والخير لوفير ، وبالطبع كان لابد للبحارة على سفينة إيسكس أن يعيدوا النظر بجولتهم تلك ، نظرًا لنفاد الطعام والشراب ووجوب إصلاح السفينة لاستكمال رحلتهم .كانت الجزر حولهم فارغة نظرًا لتصور القباطنة بأنها مسكونة بأكلة لحوم ، ولكن هبط قبطان إسكس فوق إحدى الجزر وجمع هو وبحارته الكثير من السلاحف الضخمة ، من أجل توفير اللحم الطري لهم ، ونجحوا في إصلاح سفينتهم ، ولكن أشعل أحدهم النيران بالجزيرة للمزاح ، فما كان من الرياح سوى أن فرقت النيران ونجا البحارة من الاحتراق بأعجوبة ، وهنا توعد القبطان الفاعل بالجلد ، واعترف الفاعل وتم جلده جراء فعلته .عقب عدة أيام ، لمح البحارة حوتًا أبيض ، ظهر فجأة وسط البحر وبلغ طوله 26 مترًا ، كان ساكنًا دون حراك ، مما أثار دهشتهم وهنا نصحهم القبطان ، بألا يؤذونه ، ولكن الحوت تحرك فجأة وبدأ يهاجمهم ، وخشي البحارة أن يضربونه برماحهم حتى لا تزداد فورة غضبه ، ثم هدأ واختفى فجأة .لم تمض ساعات حتى ظهر الحوت مرة أخرى ، وقسم السفينة إلى نصفين ثم غاب في أعماق المحيط ، هنا اضطر البحارة إلى الهبوط على قوارب النجاة ، وتوزيع الطعام والشراب بينهم ، ولكن عقب مرور أسبوع كان كل ما لديهم من أطعمة وشراب قد نفد ، حتى أن بعضهم قد شرب بوله ، وتمضمض آخرون بمياه البحر المالحة في محاولة للارتواء ، حيث كان الوضع كارثي .نشب بينهم الجدال ، واقترح القبطان عليهم الهبوط على إحدى الجزر ، وما بين مؤيد ومعارض خشية أكلة لحوم البشر ، هبط الجميع فوق إحدى الجزر بالفعل ، وبدؤوا في التهام ما وجوده من أوراق شجر وسلطعون ، وشربوا من جدول صغير وجدوه على سطح الجزيرة ، ولكن بدأ الطعام في النفاد ، فقرر القبطان الانطلاق بالقوارب نحو جزيرة أخرى على الخريطة ، ولكن أصر ثلاثة منهم على البقاء بينما انطلق الباقون .كان الوضع كارثي للمرة الثانية ، حيث انحرفت السفن عن طريقها ، وبدأ الطعام في النفاد أو نفد فعليًا ، ومات بعضهم وتم دفنهم بالبحر ، بينما عندما وجد آخرون أنفسهم قيد الموت ، بدؤوا في التهام جثث من ماتوا وشرب دمائهم ، وتحولوا إلى وحوش ضارية ، إلى أن وجدتهم إحدى السفن البريطانية وأعادتهم إلى وطنهم .لم ينج كل من انطلقوا بالقوارب فقارب القبطان ، تعرض لحوادث مشابهة إلى أن وجدت الناجون سفينة عابرة بالبحر ، وأخذوهم لعلاجهم ونقلوهم للمدينة ، وأبلغوا عن رفاقهم الثلاثة فوق الجزيرة ، وتم إنقاذهم ، وتشكك البعض في قدرة القبطان بولارد بعد ذلك ، والذي ظل يخلد ذكرى طاقمه بالصوم والعزلة طوال اليوم عن الجميع ، إلى أن مات عام 1870م .لتتحول قصته إلى رواية ، وعمل رائع لم يحظ مؤلفه بجني نجاحها ، ولكنها تظل من أفضل الأعمال الأدبية التي صورت الصراع بين الإنسان والطبيعة ، بشكل رائع وبسيط وجذاب .