إن القرار الذي اتخذته زينب ، قوبل ممن حولها بالاستهجان والاستغراب معًا ، لدرجة شعورها بنظرات السخط من زوجها وأولادها ، لكن في أعماقها لن تتراجع عن قرارها حتى لو اكتشفوا كذبتها ، كان قرارها أن تأخذ أجازة من المؤسسة الزوجية لعدة أيام .لن تستطيع أن تقول لهم أنها على شفا خطوة من الانهيار ومن الارهاق ، وأنها أصبحت مثل حمار الطاحونة ، فهي منذ خمسة عشر عامًا وهي تعمل على خدمتهم بشكل متواصل ، فهي تريد أن ترتاح لتشحن نفسها وتعيد شحن بطارية حياتها من جديد .الكذبة:
فقامت باختلاق كذبة أن زوج أعز صديقاتها ، قد توفي وعليها أن تسافر إليها في بيروت ، وتحديدًا في قرية قريبة من بيروت ، تحدت الجميع دون خوف من أن أحد قد يكشف كذبتها وتحدت زوجها ، كم تخيلت أنه عندما يكتشف كذبتها سوف تلاحقها نظراته الشامته وقوله لها باستهجان ، أنها مربية فاضلة .لقد باعت السوار الذهبي الذي تملكه ، وكانت مرتاحة لذلك تمامًا ، فلقد كانت تعتقد أن عقد السوار المتشابكة تشبه حياتها التي تقضيها في خدمة أحبائها ، لم تكن تعرف بيروت إلا من خلال التلفاز ، وباتفاق مع احدى صديقاتها في العمل اتفقت أن تؤجر لها سيارة لتسافر بها الى مدينة لا تعرف فيها أحد .لن تصدق أنها ستذهب بالفعل إلا وهي تحضر شنطة سفرها ، وأولادها ملفوفين حولها ينظرون إليها نظرة عتاب ، وابنها الصغير يحتضنها بشدة ، وعدتهم بأنها لن تغيب إلا أيام قليلة ، وستقوم بشراء هدايا كثيرة لهم ، نجحت خطتها بشكل لم تتوقعه ، ورغم أن خطتها مرت بسلام إلا أن شعور خوف كان يتملكها .الرحلة :
انطلقت السيارة ، وكان الطريق الى بيروت موازيًا للبحر ، ظل نظرها معلق بالبحر طوال ساعات السفر ، وأثناء عبورها الحدود لامت نفسها على أنها لم تسافر أبدًا طوال حياتها ، بل أنها كان من الممكن أن تظل كذلك حتى مماتها .لولا اختراعها لتلك الكذبة ، لم تحدد مشاعرها وهي تتعرف للمرة الأولى على طبيعة لبنان الساحرة ، لم ترغب فى تبادل الحديث مع الركاب ، ولم يغادر أطفالها ذهنها للحظة واحدة ، كانت معهم في كل تحركاتها .تفكر فى نومهم وغدائهم وإيقاظهم من النوم وذهابهم إلى المدرسه لم تنتبه إلا الآن أنها حاضرة في كل شيء في حياتهم ، أغمضت عيناها وقد اجتاحتها العاطفة العاصفة ، فقد وعت أنها على مدار الخمسة عشر عامًا أصبحت صرح هذه الأسرة ، بل حجر الأساس فيها فهم لا يكونون إلا بها .الفندق:
وصلت الفندق منهكة من الرحله ، أغلقت ستائر الغرفة واستلقت على السرير ، مسلمة نفسها إلى العتمة اللطيفه ، عاودها احساسها بذاتها ، وراودتها فكرة أخرى تمنت أن تنهض من أثقالها وتكتبها ، إن الحب أفقدها احساسها بذاتها .بالفعل فهي تفرح لفرح جميع أفراد أسرتها وتحزن لحزنهم أما هي أصبحت خاوية من أية مشاعر شخصية تمامًا ، أنها تشبه بئرًا جفت مياهه ، غرقت في النوم بعكس توقعاتها أنها لم تغفو في فراش غير فراشها ، وأيقظها من النوم فقط الشعور بالجوع حينها أدركت أنها نامت بعمق كأنها ضحية سبات .كانت الساعة الرابعة والنصف ، اتصلت بعاملة الفندق لتسألها إن كان المطعم لا يزال يقدم وجبة الغداء ، فأخبرتها أنه أجل ، فبدلت ملابسها ونزلت على الفور ، اختارت زاوية مطلة على البحر ، تستمتع بمنظر بيروت الرائع ، ثم أكلت بشهية ، أسعدها أن تُخدم لأول مرة منذ خمسة عشر عامًا .تذكرت أنها وعدتهم بالاتصال بهم لطمأنتهم حين وصولها ، فاتصلت بهم وطلب منها ابنها الأكبر رقم صديقتها فادعت أن الاتصال صعب ، أما صغيرها قام بانتزاع السماعه وقال لها جمله بسيطة هيا عودى ، وابنتها أخذت تحكي لها تفاصيل شجارها مع أخيها ، ثم أغلقت الهاتف ووعدتهم باتصال آخر .نزهة:
خرجت من الفندق وأخذت تمشي في شوارع بيروت بداية بشارع الحمراء ، كانت تشاهد واجهات المحلات مفتتنة بالمعروضات وتقارن بين الأسعار هنا وهناك ، وكلما ابتعدت عن الفندق تستدير وتنظر إليه حتى لا تضيع الطريق ، أحست بنشوة لطيفه ، شعرت بأن لها جناحين وأنها خفيفة مثل الفراشه ، بل أنها اكتشفت مشاعر أقوى وأعمق من الحب ، شعور الحرية .شعرت وكأن روحها أرض مشققة من الجفاف والحرية ماء يرويها ، وصلت إلى سينما روكسي وقطعت تذكرة استعداد للدخول لمشاهدة فيلم ممثلتها المفضلة ، تأثرت بقصة الفيلم وبكت كثيرًا ، ولكن دموعها لن تكن بسبب الفيلم بل لتشابه أحداثه بأحداث حياتها الضائعة .جلست في مقهى على الرصيف وقد تورمت عينيها ، شعرت كم أنها بحاجة لترميم ذاتها ، طلبت كأس من عصر البرتقال ، وهي تحاول منع نفسها من الاستمرار في البكاء ، هدأت بعد أن شربت من كوب العصير.عودة مرة أخرى للفندق:
في ساعة متأخرة من الليل عادت إلى الفندق ، قلبت فى محطات التلفاز بلا مبالاة ، وبدأت تغني مثل أيام ما قبل الزواج ، ثم نامت واسترخت ، وفي صباح اليوم التالي أفاقت في ساعة متأخرة ، وطلبت الفطور إلى غرفتها ، تناولت قهوتها على الشرفة متأملة الناس في سعيهم الدءوب ، شعرت أن حال البشر متشابه في كل مكان ، مر أطفالها في مخيلتها وصبحت عليها ، وتذكرت زوجها أنها لم تشتاق اليه ، بل حياتها معه قضاء واجب بالفعل ، لولا الأطفال لتركته .لقاء :
ثم فجأة لفت نظرها نزيل يلبس نظارة سوداء ويدخن الغليون ، واقف في الشرفة المقابلة لها في الفندق ونظراته تراقبها ومثبتة عليها ، تذكرت أنها قابلته عند باب المصعد بالأمس وأنه حياها بايمائة من رأسه ، قدرت أنه على أعتاب الخمسين ، وفي داخلها كانت تشعر بسعادة أنها مازلت قادرة على لفت انتباه الرجال اليها .انطلاق آخر:
ارتدت فستان كانت قد اشترته بالون الأحمر والوردى ، فردت شعرها الطويل على ظهرها ، اشترت دخان نيكوتين خفيف ، رغم أنها لم تدخن ، لكن بدت لها من مستلزمات ديكور الحرية ، ذهبت للمسرح لحضور مسرحية ، وعند عودتها واستقبالها لمفتاح غرفتها من موظفة الفندق ، أحست بحرارة بين كتفيها ، فاستدارت لتجد ذلك الرجل الذي قابلته صدفه ، كان يحدق بها .شعرت من نظرة عينه أنه يريد أن يحدثها ويكون بقربها فقط ، تجاهلته واتجهت باتجاه المصعد ، دخلت غرفتها وبدلت فستانها وجلست تفكر ، ما الموانع التي تقيدها للقاء رجل آخر غير زوجها ، فى البداية استفظعت الفكره لكن بعد ذلك بدت لها فكرة الخيانة لذيذة حقا ، شربت كوب من الماء ، ثم فكرت مرة ثانية ما الذي يمنعها من خيانة زوجها ، ولو مرة واحده في العمر ، ثم غفت حتى الصباح وقد تملكتها الفكرة تمامًا .اليوم الثالث للحرية:
وجدت نفسها فى صباح اليوم الثالث ، تتعرف على هذا الرجل ، تناولا الإفطار سويًا ، وقدم لها نفسه ببساطة ، ارتاحت للتحدث معه في مدينة الغرباء ، أمتعها أنه لم يحاول سؤالها عن حياتها الشخصيه ، وحزت حزوه ، دعها الى زيارة متحف جبران خليل جبران ، ووافقت على الفور .جلست جانبه في السيارة الفخمة ، ومع أنغام الأغنية للمطرب اللبناني كان صوته يفجر بها أحاسيس غير متوقعه ، بالفعل هذا الرجل الغريب حرك مشاعر داخلها كانت تعتقد أنها ماتت ، حتى أن جاذبية خجلة بدأت أن تنمو بينهما ، تجاهلاها بقسوة ، كانت مبهورة بالطريق الجبلي الساحر ، وبمرافقة ذلك الغريب الجذاب ، تناولا العشاء سويًا ، ثم وصلا الفندق دخلت غرفتها .فتذكرت أنها لم تتصل لتطمئن على أولادها ، لكنها لم تكن تشعر بالذنب ، فقط يتركوها تستمتع بحياتها مع هذا الرجل الغريب ، نامت على أمل اللقاء به مرة أخرى فى صباح اليوم التالي .عودة للأمومة :
استيقظت من النوم ووجدت نفسها لا شعوريا تتصل لتطمئن على أولادها ، وقد أزعجها عندما علمت أن طفلها الصغير استيقظ وحنكه متورم بشدة ، إنه النكاف كما شخص له الطبيب ، ويعاني من الحرارة ، جمعت ثيابها بسرعة شديدة ، وسددت حساب الفندق .اتجهت للسيارة وهي ترجو السائق أن يسرع ، انهمرت دموعها كاوية ، تذكرت وهي في الطريق الأيام التي قضتها مفتعلة شخصية غير شخصيتها ، فكرت في حبها لأولادها وصغيرها ، فكرت أن لن تعطي جسدها لرجل آخر لضمان نقاء روحها من أجل أطفالها وليس لأجل زوجها ، إن نقاء روحها يساعدها للبقاء قوية من أجل أولادها فحبها لهم هو محور حياتها بل وحياتها كلها .صار نفاذ الصبر يلسعها وغاية ما تريده حضن صغيرها ، وسهرها بجواره حتى يطيب ستقدم له كل ما يشتهيه ، وهي فى قمة سعادتها ، وفجأة اشتمت رائحة ذكية ، فاستدارت تسأل الركاب عن مصدر الرائحة ، فاتضح أن لا أحد أشتمها غيرها ، فاستدارت وابتسمت مرتاحة في مقعدها إنه عطر الحب ، عطر الحب لأولادها وحياتها معهم