تحكي قصتنا عن الصراع الدائم بين الإنسان والشيطان ، وها هو تولستوي يتجلى برائعته حيلة شيطان إليكم القصة.نبذة عن المؤلف :
إنه تولستوي الروائي الروسي العالمي ، صاحب أجمل الروايات بشهادة النقاد والكتاب وأصحاب النظر فى القرن التاسع عشر ، وُلد بالقرب من موسكو عام 1828م لأسرة أرستقراطية وتوفى عن عمر يناهز 82 عامًا .الفلاح والشيطان:
في صباح ذات يوم خرج قروي من كوخه الحقير ، يحمل تحت إبطه فطور ذلك اليوم متجها نحو الحقل ، الذي ما كاد يصل إليه حتى خلع معطفه ورماه تحت إحدى الشجريات .بعد أن لف فيه ما معه من الخبز ، ثم شرع في العمل ، وبعد هنيهة أنهكه ، الجوع وأضنى التعب جواده ، فأطلق سراح الجواد وجلس هو ليأكل ما أعده للفطور ، ولما تفقَّد الخبز لم يجده بين طيات ثيابه ، فأخذ يقلب المعطف بين يديه ويدقق النظر في كل جزئياته .ولكنه عبثًا كان يحاول ؛ إذ إن الشيطان كان قد سبقه إلى الشجيرة ، وسرق ما في المعطف من الطعام ، ثم جلس منتظرًا صخب القروي ولعناته على سارق الخبز ، إلا أن فأله قد خاب ؛ لأن القروي مع ما داخله من الأسف لم يتأثر كثريًا لفقد الطعام .بل اكتفى بقوله : «ما عليَّ لو صبرت ؛ فإن الجوع ليس بقاتلي ، وربما كان الآخذ في حاجة إلى ذلك الخبز ، فليهنأ به » قال هذا القول وذهب توا إلى بئر قريب منه ؛ حيث أطفأ ظمأه ، وارتاح قليلًا من وعثاء العمل ، ثم عاد فأمسك بعنان جواده واستأنف العمل ثانية .غضب الشيطان :
أما الشيطان فقد استاء من عمل القروي ؛ إذ رآه أعقل من أن يقع في الخطيئة ؛ فأسرها في نفسه ، وعزم أن يخبر رئيسه بالأمر ، وبالفعل ذهب من وقته إلى إبليس وقص عليه الحكاية ، وكيف أن القروي لم يعبأ بفقد الخبز ولم يسخط على آكله ، بل تمنى له الهناء والسرور .فما كاد إبليس يسمع ذلك حتى غلى مرجل حقده ، وانتهر تلميذه قائلًا : إنما اللوم في ذلك راجع عليك ؛ لأنك لم تقم بمهمتك كما يجب ، واعلم أن القرويين بدؤوا ينهجون على هذا المنوال ، واقتفى أثرهم في زوجاتُهم فالويل لنا نحن الأبالسة ، فالأمر خطير لا يجمل بنا أن نتغافل عنه ، فانكص على عقابيك سريعًا ، وأصلح خطأك هذا ، وإن لم تنتصر على ذلك القروي الساذج في ظرف ثلاث سنين ، فسوف أريك كيف يكون جزاء الإهمال .عودة الشيطان مرة أخرى:
فعاد الشيطان إلى الأرض مسرعًا وهو ينتفض فرقًا وقد تقطعت نياط قلبه من تهديد الرئيس ، وأخذ من وقته يفكر في حيلة يوقع بها ، ذلك المسكين في حبائله ، وأخيرًا اهتدى إلى مشروع وجَده كفيلا بنجاحه ، فتزين بزي أحد العمال وتمكن من أن يَدخل في خدمة القروي .الحيلة الثانية :
وفي عامه الأول نصحه بأن يبذر حبوبه في أرض رطبة ، فعمل القروي بنصيحته فأنتجت الأرض محصولًا جيدًا ، فتمكن من ملء مخازنه وكان الجو من حسن حظه جاف ، وأصبح لديه كميات وافرة من القمح تزيد عن حاجاته .العام الثاني :
وفي عامه التالي عاد إليه الشيطان ينصحه بأن يبذر حبوبه على ربوة من الأرض ، ثم جاء وقت الحصاد وكان الصيف رطبًا ؛ فاستفاد القروي من النصيحة وتوفر لديه الكثير من القمح يربو عما جناه في عامه السابق ، فحار في أمره ولم يدر ماذا يصنع بكل ذلك القمح الكثير ، فوسوس إليه الشيطان أن يستخرج منه نوعا من الخمر ففعل .الخمر والغواية :
كان الخمر المستخرج قويٍّا شديد التأثير ، فسرَّ بهذا الاكتشاف وأخذ يشرب منه هو وزوجته ، وأهدى إلى أصدقائه الشيء الكثير ، عند ذلك ذهب الشيطان إلى رئيسه فرحًا مستبشرًا وقص عليه ما فعله لإغواء القروي ، فقام إبليس مسرعًا ليشاهد الأمر بنفسه ، ويتحقق صدق مقاله ، وملا وصلا إلى منزل القروي وجدا أن صاحب المنزل يستعد لحفلة ساهرة .دعا فيها كل جيرانه الأعزاء ، ثم رأيا وفود المدعوين تقبل إلى المنزل جماعات ووحدانًا ، وصاحبة الدار قائمة بخدمتهم تقدم لهم كوؤس الخمر ، وبينما كانت تدور عليهم بالأواني إذا بها قد تعثرت فوقعت الأواني من يدها ، وسال الخمر على الأرض ، فاحتدم زوجها غضبًا ، وصاح بها يقول : ما الذي دهاك أيتها العسراء حتى أهرقت هذه الخمر اللذيذة على بساط الغرفة ؟ أظننت أن ما بني يديك من ماء البئر ؛ حتى أخذت في إتلافه وإسرافه .وما كاد الشيطان يسمع هذه الكلمات حتى غمز رئيسه قائلًا : أسامع أنت كلام ذلك القروي الساذج الذي لم يهتم لفقد كسرة الخبز وبينما كان القروي ينتهر امرأته ويلومها على فعلتها ؛ إذا بقروي فقير دخل عليهم متطفلًا واستوى جالسًا على المائدة ينتظر إكرام صاحب الدار ، ولما طال به الجلوس تململ صاحب المنزل من جلوسه وتمتم يقول : «أنا ليس في وسعي أن أقدم شرابًا لكل من يتطفل على موائدنا.»فسمع إبليس في نفسه بهذه النتيجة إلا أن تلميذه قال وهو يبتسم : «انتظر قليلًا هذه الكلمات وسرَّ فسوف ترى ما هو أعجب» وفعلًا ما كاد يتم قوله هذا حتى كان القوم أخذتهم نشوة الخمر .فأصبحوا يخادعون بعضهم البعض بألفاظ ملؤها تملق والرياء ، عند ذلك فالإبليس : إذا كان بعض الخمر يجعلهم على هذه الحال يروغون كالثعالب ، ويتملقون بعضهم البعض ، ولكنك سوف تراهم عقب الكأس الثانية كالذئاب المفترسة ينهشو لحوم بعضهم البعض .فما أتم الشيطان هذه الكلمات حتى كان الشراب يدور على القوم ثانية ، ثم ارتفعت من بينهم دواعي الحشمة وأصبحوا يتبادلون وحشي الكلام وقبيح الألفاظ ، ثم هنأ تلميذه بذلك الفوز الباهر وتطور الأمر إلى المضاربة ، فالملاكمة ، فتلألأ وجه إبليس بشرًا وهم قائلًا : هذه هي الخطوة الأولى في سبيل النصر ، فأجابه تلميذه : انتظر حتى النهاية ترى ما هو أغرب ، فإنهم الآن كالذئاب يكاد أحدهم يفترس صديقه ، ولكنك سوف تراهم كالخنازير عقب الكأس الثالثة .عندها دارت الكؤوس عليهم مرة ثالثة ، فعلَت أصواتهم وزاد صخبهم ، وأصبح كلمنهم يلعن ويشتم بلا سبب ومن غير داع ، وبعد برهة وجيزة انفرط عقد جمعهم وأخذوا يترنحون سكرا ويتمايلون ذات اليمني وذات الشمال ينسلون من مكان الدعوة جماعات ووحدانا .ثم ذهب الضيف أثرهم ليشيعهم ، ولكنه ما كاد يخطو بضع خطوات حتى تعثر في مشيته ، فوقع في حفرة مملوءة بالأوحال ، وتلطخ بها من قمة رأسه إلى أخمص قدميه فازداد إبليس لهذا المنظر بهجة وسرورًا .والتفت إلى تلميذه يقول : هلل درك! فلقد كان نجاحك باهرا وفوزك مبينًا ، ولكن ، خبرني : كيف صنعت هذا الشراب ؟ فلا ريب أنك أضفت إليه بضع نقط من دم الثعالب ؛ وهذا ما حدا بهم لأن يراوغوا ويتملقوا بعضهم البعض في الكأس الأولى ثم أظن أنك أضفت إليه بعضًا من دم الذئاب ؛ إذ كان نتيجة ذلك أنهم أصبحوا كالذئاب العاوية! وأخالك أتممت العمل بوضع نقط من دم الخنزير حتى أصبحوا يماثلون الخنازير عقب الكأس الثالثة .فقال الشيطان : كلًا فإنك لم تصب كبد الحقيقة ، فليست هي الطريقة ، وكل ما في الأمر أني بذلت ما في وسعي لأن أجعل ذلك القروي يملك حبوبًا أكثر مما يحتاج إليها ؛ فالإنسان يجول في عروقه دماء الحيوانية على الدوام ، وتظل هذه الغريزة كامنة في نفسه طالما كان يملك من حطام الدنيا أقل من ضرورياته.يدلك على ذلك ما أظهره القروي عندما تحرشت به في مبدأ الأمر ، ولكنه ما كاد يتوفر لديه أكثر مما يحتاج إليه حتى عماه الغني وتمادى به الغرور ، فأخذ يبحث عن دواعي الملاهي والسرور ، وهنا سنحت الفرصة لإغوائه ؛ فأخذت بيده إلى طريقة من طريق الغواية ؛ إذ أرشدته إلى صنع الخمر .فاستلذها لسوء حظه ، وشربها عذبة سائغة ، فكان في ذلك كالساعي إلى حتفه بظلفه ، فإنه ما كاد يكفر بأنعم الله حتى أعطيته خمرة تُذهب برشده حتى ظهر ما كمن في نفسه من تلك الدماء الخبيثة — دماء الحيوانية — فأصبح وحشًا ضاريًا بعد أن كان إنسانًا ، وهو يظل كذلك وحشًا مفترسًا بعيدًا عن مناهج الإنسانية طالما يعاقر تلك الكؤوس .