قصة أحقًا مات

منذ #قصص عالمية

قصة “أحقًا مات” هي واحدة من قصص الأدب الإيطالي العالمي للكاتب لويجي بيرانديللو .نبذة عن الكاتب :
لويجي بيرانديللو هو كاتب إيطالي وُلد عام 1867م ، وقد تميز بكتاباته الأدبية من خلال الأعمال الروائية والمسرحية وكذلك القصص القصيرة ، وهو ما جعله يحصل على جائزة نوبل في الأدب خلال عام 1934م ، وقد توفي خلال العام 1936م .القصة :
كان الركاب الذين غادروا روما في أحد القطارات الليلية السريعة قد اضطروا للوقوف بمحطة صغيرة في “فابريانو” حتى يبزغ الفجر ، وذلك من أجل مواصلة رحلتهم في قطار محلي صغير يتميز بطرازه القديم كي ينقلهم إلى “سيلومانا”.وحينما حلّ الفجر كان الهواء فاسدًا في إحدى عربات الدرجة الثانية التي أصبحت تعج بالدخان ، وكان هناك خمسة أشخاص قد قضوا ليلتهم هناك ، ثم انضمت إليهم امرأة ضخمة يبدو عليها علامات الحزن العميق وكأنها هيئة بلا ملامح ، وكان خلفها زوجها يئن ، حيث بدا أنه رجل ضئيل الجسد ونحيل الوجه وكانت عيناه صغيرتان مشعتان ، وظهر كأنه مضطرب وخجول .حينما أخذ الزوج مقعده قام بتقديم السكر بلطف إلى الراكب الذي ساعد زوجته لتجلس حيث أفسح لها المكان ، ثم التفت الزوج إلى زوجته كي يقوم بإصلاح وضع شالها ، وقام فيما بعد بسؤالها بكل أدب :”هل أنتِ على ما يرام ؛ عزيزتي؟”، ولكنها لم تجبه بل قامت بسحب شالها مرة أخرى باتجاه عينيها وكأنها تريد إخفاء وجهها .قام الزوج بالتمتمة من خلال ابتسامته الحزينة :”الحياة كلها تعب” ، وحينها راوده الشعور بتوضيح الأمر لمن بجواره من المسافرين ، حيث أن زوجته تستحق الشفقة وذلك لأن الحرب قد أخذت فلذة كبدها الوحيد ، كان شابًا في ريعان شبابه بالعشرين من العمر .كان الزوجان يكرسان حياتهما كلها لابنهما لدرجة أنهما غادرا منزلهما في” سيلومانا” كي يلحقا به حينما ذهب للدراسة في روما ، ثم سمحا له فيما بعد بأن يتطوع في الحرب بعد أن أكد لهما بأنه لن يتم إرساله إلى الجبهة على الأقل في أول ستة أشهر من التحاقه بالجيش ، غير أنهما تسلما منه برقية غير متوقعة أخبرهم بأنه لابد وأن يذهب إلى الجبهة خلال ثلاثة أيام ، حيث طلبا منهما أن يذهبا لوداعه .كانت الزوجة الحزينة تتململ تحت شالها الذي كان كبيرًا ، وكانت تدمدم في بعض الأحيان وكأنها حيوان بري ، كانت تثق بأن كل التوضيحات التي يقوم بها زوجها لن تحظى بتعاطف الآخرين الذين بدوا في الأغلب وكأنهم في نفس محنتها ، وقد قال أحدهم بعد أن أنصت باهتمام لحديث الزوج :”لابد وأن تحمد الله لن ابنك لن يذهب إلا الآن إلى الجبهة ، إن ابني يا سيدي قد ذهب هناك منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب ، وقد عاد جريحًا مرتين ثم عاد إلى الجبهة من جديد”.بينما تحدث آخر قائلًا :”وأنا ماذا أقول ، فإن لي ولدين في الجبهة الآن ، وأخي له ثلاثة” ، هنا قال الزوج بجرأة :” قد يكون عندك حق ، ولكن وضعنا مختلف لأنه ابننا الوحيد ” ، فأجاب الرجل :” وما هو الفرق ، قد تُفسد ابنك الوحيد من فرط الاهتمام به ، ولكنك من المستحيل أن تحبه أكثر إذا كنت تمتلك أبناء آخرين ، لأن الحب الأبوي لا يشبه الخبز الذي يمكن تقطيعه وتوزيعه بالتساوي بين الأبناء ، فالأب يعطي لأبنائه كل حبه دون تفضيل “.أكمل الرجل حديثه قائلًا :” إنني حينما أعاني من أجل أبنائي الاثنين ، لا يعني ذلك أنني أعاني نصف معاناة لكل واحد منهما بل إنني أعاني الضعف ” ، شعر الزوج بالحرج قم تنهد قائلًا :” حقًا ، ولكن علينا أن نفترض _ونتمنى ألا يحدث ذلك _أن الأب الذي لديه ولدين في الجبهة قد فقد أحدهما ، فسيبقى الآخر معينًا له ، ولكن من ليس لديه إلا ولد وحيد .. “.ردّ الرجل بقوله :” نعم سيتبقى لديه آخر ليعينه ، ولكن هنا يتوجب على الوالدين أن يعانيا من أجله هو الآخر ، أما في حالة الأب الذي لا يملك سوى ابن واحد ، فمن الممكن أن يموت الأب بعده واضعًا نهاية لمحنته ، فيا ترى أي الحالتين يبدو أسوأ ، ألا توافق أن حالتي هي الأسوأ؟!”.قام رجل ثالث بمقاطعة حديثهما والذي بدا بدينًا ، كما بدت عيناه متورمتين ومليئتين بالاحمرار وكأن جسده لا يستطيع احتوائه ، حيث قال :” هراء .. ” ، ثم قام بتكرار الكلمة وهو يحاول أن يغطي فمه بيده كما لو كان يريد أن يخفي موضع سنتيه الأماميتين المفقودتين ، ثم قال :”هل ننجب الأبناء من أجل مصلحتنا” ، فنظر إليه الناس بغضب.تحدث إليه الرجل الذي لديه ابن في الجبهة منذ اليوم الأول للحرب بقوله :”حقًا إن أبنائنا ليسوا لنا بل إنهم للوطن “، فقال الرجل البلدين بغلظة :” هراء…وهل نقوم بالتفكير في الوطن حينما ننجبهم ، أولادنا قد وُلدوا لأنهم.. لأنهم لابد وأن يولدوا ، وحينما يأتون هذه الحياة فإنهم يأخذون معهم حياتنا ، نعم إننا لهم ولكنهم ليسوا لنا ، فنحن أيضا كنا في مثل سنهم حينما بلغنا العشرين وكان لنا آباء ولكن كان لدينا اهتمامات أخرى “.استطرد الرجل بقوله :” فمن كان منا يسمع لوالديه حينما كانا يقولا له لا تفعل ، والآن في سننا أصبح حب الوطن كبيرًا حقًا لكنه أكبر منه ، فهل منا من يعترض إذا أتيحت الفرصة ليكون مكان ابنه في الجبهة؟! ، بدأ الناس يستمعون في اهتمام وموافقة قم أكمل الرجل بقوله :” لماذا لا نهتم بمشاعر أبنائنا حينما يبلغون العشرين ، ألا يكون من الطبيعي أن حبهم للوطن أعظم من حبهم لنا ؟ ، إن حديثي عن الأبناء الصالحين”.استطرد اليدين قائلًا :”إن الأبناء ينظرون إلينا على أننا كبرنا ولا نستطيع الحراك ، وطالما أن حاجتنا للوطن فطرية مثل الخبز ، فلابد أن يوجد من يدافعون عنه ، ولقد أصبح بمقدور أبنائنا فعل ذلك حينما بلغوا العشرين ، لذلك فإنهم لا يريدون منا دموعًا ، وإن ماتوا فإنهم سيموتون وهم سعداء ، وماذا يمكن أن نتمنى أكثر من ذلك لشاب يموت سعيدًا دون أن يرى من الحياة جانبها القبيح ، يجب أن يكف أي شخص عن البكاء، ويبتسم بملء فيه كما أفعل أنا ويرضى كما أرضى أنا”.أكمل الرجل قائلًا :” لقد أرسل لي ابني رسالة قبل أن يموت يخبرني بأنه سيموت راضيًا لأن حياته ستنتهي بأفضل طريقة ، ولذلك لا أرتدي أي لباس حداد لأجله ” ، ثم حاول أن يكشف أنه لا يرتدي تحت معطف الخفيف أي ملابس حداد ، ثم أنهى كلامه بضحك مدوية بدت كالتنهيدة، بينما وافقه المسافرون بقولهم :” حقًا.. حقًا.. “.كانت المرأة العجوز تجلس قابعة تحت شالها في زاوية تستمع إلى ذلك الرجل ، فهي كانت تحاول منذ ثلاثة شهور أن تجد في كلمات زوجها وأصدقائه المواساة الحقيقية عن حزنها العميق ، كانت تبحث عن شيء يقنعها بكيفية ارسال أم لابنها الوحيد إلى مكان فيه خطر وليس حتى إلى حد الموت كما حدث معها ، ولكنها لم تجد أي شيء يشفي عليلها ، ولكن الوضع الآن قد اختلف مع كلام ذلك الرجل ، لتكتشف أنها لم ترقى بنفسها لتكون مثل هؤلاء الآباء الذين كيفوا حياتهم بلا بكاء .حاولت أن تستمع العجوز باهتمام إلى كل كلمة يقولها الرجل البدين عن ابنه البطل وكيف مات ، وكأنها دخلت عالم لم تحلم به أبدًا ، وبدا عليها السرور وهي تسمع كلمات التهاني لذلك الأب الشجاع ، ثم فجأة استيقظت من عالمها وكأنها لم تسمع شيئًا حيث سألت الرجل البدين :”هل حقًا مات ابنك؟” ، حملق فيها الرجل ومن حوله ، وحاول أن يجيبها لوهلة ، لكنه لم يستطع فنظر محدقًا إليها ، لقد اكتشف فجأة أن ابنه مات بالفعل فانكمش وجهه وانخرط في بكاء مرير .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك