التجربة الماليزية ، من أكثر التجارب الاقتصادية نجاحًا على مستوى العالم ، وتستحق التأمل حيث يُضرب بها ، المثل الأكثر روعة في تخطي شروط ، وقمع برامج صندوق النقد الدولي .تلك التجربة التنموية الشاملة ، التي نجحت في تخليص ماليزيا ، من الانغماس في إفلاس اقتصادي تام ، وهذه هي قصة التجربة الماليزية وكيف نجحت .بداية الأزمة :
كانت بداية الأزمة الآسيوية ، قد ضربت في جذور الاقتصاد الآسيوي منذ عشرين عامًا ، حيث أتت أولاً على الاقتصاد التايلاندي ، ثم انتشرت بعد ذلك ، كالنار في الهشيم لتدمر اقتصاد كل من ، اندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية ، ثم لحقت بهم بقية دول جنوب شرق آسيا .وكان سبب تلك الأزمة ، هو هروب رؤوس الأموال الكبيرة ، بتلك الدول إلى الأسواق الرأسمالية المنفتحة ، مما أدى إلى انهيار اقتصادي شامل ، في تلك الدول ، لم تشهد جميعها مثله منذ العقود الست المنصرمة .وكانت تلك الدول قد حققت إنجازات قوية ، أدت إلى نهضة كبرى ، في القطاع الصناعي بهم ، في فترة الستينيات من القرن المنصرم ، حتى هربت رؤوس الأموال منها ، فانهار الاقتصاد .وبحلول عام 1997م ، كان الاقتصاد الآسيوي قد انهار تمامًا ، خاصة مع وجود الكثير من الاستثمار الأجنبي بتلك الدول ، فتعثرت المشروعات الصغيرة ، وتفاقمت أزمات القروض المحلية ، والاستثمار قصير الأجل ، مما تسبب في ظهور ديون متراكمة ، كان لابد معها من ، الاقتراض من صندوق النقد الدولي ، والخضوع لشروطه .عقب هذا الانهيار الذي شهدته دول جنوب شرق آسيا ، آثرت ماليزيا ألا تخضع لسياسات وشروط ، صندوق النقد الدولي ، حتى لا تقع فريسة له طيلة الوقت .وكان رفض تلك الفكرة ، نابعًا من جانب القائمين على الاقتصاد الماليزي حينذاك ، فشروط صندوق النقد ، لم تكن لتكفل لماليزيا ، ما ترغب في الحصول عليه ، من أجل النهضة وإنقاذ الاقتصاد مرة أخرى .وبينما كانت ماليزيا تترنح ، في اتخاذ القرار أمام عروض صندوق النقد الدولي ، إذا بكوريا الجنوبية تتجه للسير في طريقه ، وكان هذا الأمر ، يمثل مفترق للطرق أمام ماليزيا ، فإما أن تقبل بشروط صندوق النقد ، أو أن تنهض بنفسها معتمدة ، على قواها المنهكة بالفعل .وعقب أن اتخذت كوريا الجنوبية ، السير في طريق صندوق النقد ، بدأت ماليزيا تشعر بأنها قد تسير في نفس الطريق ، مثل كوريا الجنوبية التي تحاول الخروج من أزمتها ، مثل من سبقها من المأزومين ، وعلى الرغم من صعوبة القرار ، إلا أن ماليزيا اتخذت الطريق الأصعب ، وقررت السير في طريق النهضة ، والارتكاز على اقتصاد منهك فعليًا .ولعل السبب الكامن خلف اتخاذ ماليزيا ، لهذا القرار الأكثر صعوبة ، هو أن الاقتصاد الكوري ، كان أكثر تطورًا وذو ركائز قوية ، تعتمد على مؤشرات التصنيع والتصدير ، في حين لم تكن ماليزيا تمتلك أمرًا مثل هذا ، لأن ماليزيا كانت دولة تعتمد على الزراعة ، وقد أدرك القائمون على اتخاذ القرار في ماليزيا ، اختلاف المؤشرات الاقتصادية بينها وبينها الجانب الكوري ، مما جعلهم يبتعدون عن السير ، في طريق صندوق النقد ، الذي لن تستطيع ماليزيا من سداد فواتيره وتنفيذ شروطه عليها .مهاتير محمد والنهضة الماليزية :
تولى مهاتير محمد رئاسة وزراء ماليزيا ، منذ عام 1981م وحتى عام 2003م ، والتي تعد أطول فترة حكم في آسيا ، وكان لمهاتير محمد دورًا بارزًا ، في الخروج من الأزمة الماليزية ، وذلك بفضل تخطيطه المحكم لاقتصاد ماليزيا .قام مهاتير محمد بتحويل الأزمة الماليزية ، من محنة إلى منحة إيجابية ، فقام بتحويل ماليزيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية ، تنتج الكثير من المواد الأولية ، ثم تصدرها إلى الدول المتقدمة ، التي تعتمد بشكل رئيس في اقتصادها ، على مساهمات قطاع الصناعة بها ، لأكثر من 90% من إنتاجها المحلي .كما استطاع مهاتير محمد ، التمييز بين كل من الدين والسياسة ، وفرق بينهما بأنه إذا ما أراد التدين ، سوف يذهب إلى بيت الله الحرام ، وإذا ما أراد المعرفة والتعلم ، فسوف ينطلق صوب اليابان ، الأمر الذي جعل كل من في ماليزيا ، يبقون على تقاليدهم الدينية ، كلها والحفاظ عليها وعلى ثوابتها لديهم ، مع الاهتمام بالتنمية الفكرية القوية ، مما شجع الماليزيين ، على العمل بجدية للخروج من أزمتهم .عام الحصاد :
بحلول عام 1999م ، بدأت ماليزيا تجني حصاد ما زرعته من قبل ، فبدأت صادراتها في التعافي ، وتحقيق أرباحًا قوية ، حيث بلغ معدل النمو من خلالها إلى 13.2% ، عن العام الذي سبقه .بينما ارتفع نصيب ماليزيا من عمليات التصدير التكنولوجية ، إلى ما قُدّر قيمته بحوالي 40 مليار دولار ، في هذا الوقت فتراجع معدل التضخم ، لأكثر من 2.7% ، ليتراجع العجز في الحساب المالي لماليزيا ، ويتعافى السوق المالي لها .بعد هذا النجاح ، بدأت ماليزيا في جذب استثماري قوي ، أخذ في التدفق على الصناعات التنموية ، ليعود الاقتصاد الماليزي ، لما كان عليه قبل حدوث الأزمة ، وتنجح ماليزيا في تحقيق ، معدل نمو قوي ، بعيدًا عن سياسات صندوق النقد الدولي .