: علم العلماء ؟ أم ضرب من السحر ؟
يدخل ميسمير بهيبته المعتادة، الخاطفة للأنظار، دخولا قاطعا للأنفاس، مرتديا عباءته السوداء، حاملا قضيبه المعدني، يقوم بخفض الإضاءة و يردّد: " ارفعوا السبابات بهذا الشكل..
أريدكم أن لا تفكّروا في أي شيء آخر باستثناء أصابعكم..
...
لقد تحوّلت الأصابع لمغانط قويّة إنّها تنجذب لبعضها تلقائيّا..
...
لقد التصقت السبابات فعلا.. و مهما حاولتم فصلها لن تنجحوا.."
تلتصق أصابع الحاضرين بشكل عجيب تماما كما أشار لهم ميسمير و يدخل الجميع في حالة فزع
يوحي ميسمير لهم أخيرا أن تنفصل أصابعهم. و هذا ما يحدث. عندها يختار ميسمير أحد الحاضرين و يطلب منه أن يمعن النظر في القضيب المعدني الذي يقوم برفعه عاليا و هو يردّد بعض الكلمات ثمّ يهمس في أذنه بشكل مفاجئ :"نم".. يقع الشاب في نوم عميق.
ميسمير(مخاطبا الشاب):" ستستيقظ الآن ثمّ و ما إن أحك رأسي ستلبسني معطفك.. "
يستيقظ الشاب فيشرع ميسمير بالحديث و ما إن يحكّ رأسه حتّى يلتفت الجميع للشاب و تعتلي وجوههم نظرات الفضول. فينزع هذا الأخير معطفه و يتّجه نحو ميسمير و يمسك ذراعه و يشرع في إلباسه إيّاه
ميسمير:" لا أريد"
يقول الشاب و هو على وشك البكاء: "الطقس صار باردا ارتدي المعطف أرجوك " يذعن ميسمير و يلبس المعطف لترتسم على وجه الشاب علامات الارتياح و السرور
ميسمير(يسأل الشاب وسط تصفيق الجمهور): "لم ألبستني معطفك ؟ "
يبدو الشاب في ذهول و إحراج تام فيقول و قد أحمرت وجنتاه خجلا:" لا أدري.. كانت مجرّد فكرة سخيفة خطرت ببالي فجأة و أخذت تلحّ عليّ"
ترتفع قهقهات الجمهور و ينسدل الستار
لابدّ و أنكم تتساءلون من هذا المدعو بميسمير ؟ و ماذا يمارس على الناس حتّى ينصاعوا له بهذا الخضوع لدرجة أن يجعلوا من أنفسهم أضحوكة ؟
لا بدّ و أن بعضكم توقّع أنّه مقدّم عروض و ربّما توقّع بعضكم أنّه يستعين بالجنّ و الشياطين. لم تخطئوا و لم تصيبوا
إسمه بالكامل هو فرانز أنطوان ميسمير، له قدر رهيبة على بعث الطمأنينة في النفوس. هو مقدّم عروض و عالم فيزيائي و طبيب ألماني. برع في تقديم عروض التنويم بطريقة اللاعب البهلواني في سن الخامسة عشرة و قد ورث هذا الفن من جدّه. كان يبدأ عرضه باختبار الأصابع الروتيني ليتبيّن من بين الجماهير الأشخاص الأكثر قابليّة للتنويم ثمّ ينطلق في عرضه تماما كما شرحت لكم في بداية المقال. حتّى الآن، كانت حياته هادئة، مستقرّة و سعيدة حتّى تخصّص في الطبّ و أفنى جزءا كبيرا من حياته في دراسة علم التنويم و أسراره حيث آمن بقدرته العلاجيّة و التشخيصيّة. كان ميسمير يعتمد على قطعة من المغناطيس في علاج مرضاه حيث يمرّرها على موضع الألم و يستعملها أيضا في التنويم لتغييب وعي المرضى. آمن بنظريّة وجود سائل ممغنط في جسد الإنسان شبيه بالسائل الموجود في بعض المعادن، إن وظّف بشكل صحيح، يمكن أن يؤثّر على جسد الإنسان و دماغه. من هنا أطلق ميسمير على هذه العمليّة بـ "التنويم المغناطيسي" و قال البعض أن أصل هذه التسمية هو انجذاب المنوّم خلالها للشخص الذي يقوم بتنويمه كانجذاب المعدن للمغناطيس
نشأته و تاريخه
التنويم المغناطيسي هو من أقدم العلوم و هو ليس من إبتكار ميسمير ، و قدّر أنّه موجود قبل ولادته بحوالي ثلاثة آلاف سنة . النقوش على جدران المعابد الفرعونيّة الشامخة إلى يومنا هذا و التي تجسّد بشكل واضح جلسات تنويم هي أكبر دليل على أنّ الحضارة المصريّة القديمة كانت سبّاقة في استعماله. تمّ تلقينه للكهنة لتقوية إيمان العباد و حتّى للتنبأ بالمستقبل. قيل أيضا أنّ موطنه الأصلي هو الهند حيث إستعمله الفقراء ووثّقوا ذلك في كتبهم ثمّ استخدمه اليونانيّون و البابليّون. إنتشر في بعض البلدان و إنقرض في معظم البلدان ليطويه النسيان لسنوات طويلة حاله حال العديد من العلوم. و لم يسترجع إعتباره إلّا من خلال ميسمير في القرن الثامن عشر حيث أبهر به أمراء أوروبا و و أطلق عليه البعض "الميسماريّة" نسبة له. لكن سرعان ما تنكّر الدهر لبطلنا، و لم تدم سنوات العزّة و الشهرة حيث إعتقد البعض أنّ ما يفعله هو ضرب من السحر و الشعوذة لدرجة أنّ المنظّمة الطبيّة بفيينا لم تعترف بأبحاثه بل و حرمته من عضويّتها ممّا جعله يغادر مسقط رأسه في 1870 إلى فرنسا
هناك ظهر باحثون مشكّكون في نظريّته منهم لافوازيه و فرانكلين بنجامين أكّدوا أنّ السائل الذي تحدّث عنه ميسمير غير موجود أصلا و أنّ ما تقوم عليه العمليّة هي قوّة الإيحاء فقط و منذ ذلك الحين تغيّرت المفاهيم و أطلق عليه "التنويم الإيحائي"
التنويم المغناطيسي وأسراره : علم العلماء ؟ أم ضرب من السحر ؟
الطبيب الأمريكي ميلتون إيريكسون و إبتكر طريقة جديدة في التنويم أطلقت عليها بالإريكسونيّة بعيدا عن الطرق الاستعراضية القديمة
منذ سنة 1923، ظهر الطبيب الأمريكي ميلتون إيريكسون و إبتكر طريقة جديدة في التنويم أطلقت عليها بالإريكسونيّة و هي أكثر إحتراما للذات الإنسانيّة من الطريقة القديمة حيث لا تقوم على إلقاء الأوامر المباشرة و لا على العلاقة العاموديّة بين المنوّم و المعالج. جزء كبير من دراسات إريكسون يعتمد عليها أطباءنا إلى يومنا هذا
ماهو التنويم الإيحائي ؟
إختلف العلماء و الأخصائيّون حول التعريف الدقيق للتنويم. وضعت عدّة نظريّات و دحضت أخرى. و لم يتمّ تأكيد نظريّة واحدة بشكل قاطع. لكن هناك تعريف واحد اتفق عليه الجميع و هو أنّه حالة انشقاق الوعي أو حالة إستثنائيّة من الوعي يعني يكون الشخص تحت تأثير التنويم واع بحواسه و ذاكرته فقط بينما يتمّ تغييب الجزء الناقد و المحاسب من الوعي. يتميّز العقل البشري خلال هذه التجربة الفريدة بقابليّة عالية لتنفيذ الأوامر مع فقدان الإحساس بالمكان و الزمان و المعايير المتغيّرة
العقل البشري في الحالة العاديّة (اليقظة) قادر على التركيز على عدّة أشياء فيقوم بتحليلها و نقدها جميعا و ردّ الفعل في وقت واحد أمّا في حالة التنويم فلن يركّز إلّا على شيء واحد و هو صوت المنوّم و الاقتراحات التي سيعرضها عليه دون القدرة على تحليلها أو نقدها و بالتالي يكون أكثر طواعيّة و استجابة للأوامر
يؤكّد الأخصائيون أنّنا جميعا نمرّ بهذه التجربة الفريدة دون أن نشعر، مثلا عندما تقود سيّارتك لساعات طوال و أنت تستمع لأغانيك المفضلة، لن تشعر بالملل، ستفقد إحساسك بمرور الزمن البطيء، لن تشعر بالضجر من طول المسافة و الضجر من زحمة السير، لأنّ تركيزك كان منصبّ على الموسيقى التي أخذتك لعالم افتراضي جميل، لقد تمّ تنويمك دون أن تشعر
هناك مثال آخر هو أكثر مشابهة للتجربة، عندما تجلس أمام التلفزيون لمشاهدة برنامجك المفضّل الذي انتظرته منذ أيّام ثمّ تسرح بتفكيرك بعيدا لتفكّر في مشكلة تؤرّقك- و ما أكثر مشاكل الحياة- وفي هذه اللحظة من الشرود، يأتي شخص و يطلب منك أن تغلق التلفاز، فتغلقه آليا. و ما أن تستعيد وعيك حتّى تتعجّب من نفسك و تتساءل:"ما الذي حصل لي؟ لم أغلقت التلفاز ؟"
يمكن للانسان ان يقوم بتنويم نفسه ذاتيا .. هناك مواقع تقدم ارشادات للقيام بذلك ، وهناك مقاطع فيديو على يوتيوب تزعم انها قادرة على تنويمك .. عن طريق التركيز على مؤثرات مثل الصورة اعلاه وسماع صوت المنوم وهو يقودك للنوم
و الكثير من الحالات المشابهة و التي نمرّ بها و تدلّ على أنّ كلّ شخص قادر على تنويم نفسه بنفسه و يطلق على هذه الظاهرة بالتنويم الذاتي أو التنويم التلقائي في المقابل لا يمكن لأي شخص أن ينوّم شخصا آخر دون أن تتوفّر فيه بعض الصفات القياديّة كحب السيطرة و أن يكون ذو شخصيّة فولاذيّة بالإضافة إلى خضوعه لتكوين شامل في علم التنويم
كذلك يجب أن تتوفّر بعض الشروط في الشخص المراد تنويمه يجب أن يكون مؤمن بالعمليّة و يرغب في خوضها فعلا فقابليّة التنويم تتفاوت من شخص لآخر و بحسب منظّمة الصحّة العالميّة فإنّ 90 بالمائة فقط من الأشخاص في العالم قابلين للتنويم و عادة ما يميل الأطفال أن يكونوا أكثر تنويما
التطبيقات
على ضوء الإيحاءات التي سيتلقاها الفرد و هو تحت مفعول التنويم، قد تتغيّر سلوكه و ميولاته و تساعده الإيحاءات في التخلّص من الأوجاع الجسديّة و بعض العادات التي هو مؤمن بسخافتها و مضارها لكنّه لم يتمكّن من تركها بنفسه
كما يحسّن التنويم من مستوى تركيز الطلّاب و الحدّ من القلق و المخاوف قبل الخضوع لاختبار مادّة هامّة أو امتحان مصيري كما يمكّن من التخلّص من بعض العادات المحرجة كقضم الأظافر و التأتأة و نوبات الخوف بكلّ أنواعها و يساعد المدمنين على التخلّص من رغبتهم في التدخين أو أحد المواد المخدّرة من خلال الدخول للعقل الباطني للمريض و ترسيخ مخاطر الإدمان في ذهنه و هو في تلك الحالة من الصفاء و الاسترخاء كما يمكّن التنويم من التخلّص من بعض مشاكل البشرة المرتبطة بنفسيّة الفرد من روتين و ضغوطات
يؤكّد علماء النفس أنّ بداخل كلّ إنسان توجد نبرات صوتيّة مختلفة و عند إصابة الشخص باختلال في شخصيّته يؤثّر ذلك على حباله الصوتية فيفقد السيطرة و يمكن أن تصدر عنه أصوات غريبة، مخيفة، محرجة، و مضحكة كأن تتحدّث امرأة بصوت خشن أقرب من صوت الرجال إلى النساء أو العكس يفسّر البعض ذلك بأعراض المسّ الشيطاني بينما يقول المنوّم يوسف جلال: "جاءتني امرأة من الإسكندريّة تعاني من صوت غريب يخرج منها أخضعتها لجلسات التنويم حتّى شفيت تماما "
أثبت التنويم أيضا نجاعته في علاج أمراض عضويّة مستعصية كأمراض السكري و ضغط الدم و تحسين الأداء الجنسي و السمنة حيث يؤمن الأطبّاء أن علاج السمنة يكمن في الدماغ الذي يتحكّم في هرمونات الإحساس بالجوع و الشبع و يمكنه حتّى علاج الهبّات الساخنة التي تعاني منها بعض النساء نتيجة لانقطاع الحيض
لاحظ عزيزي القارئ أنّ علاج المريض ليس بتكديس الأدوية التي لا تخلو من الآثار الجانبية الخطيرة على المدى البعيد بقدر ما يعتمد على نفسيّة الفرد و قوّة إرادته كلّما كانت معنويّاته مرتفعة كلّما تغلّب على المرض بشكل أسرع
التنويم الإيحائي في ردهة العمليّات
تمّ استخدام التنويم منذ القرن التاسع عشر كبديل عن التخدير بالحقن التقليدي و ذلك لما له من تأثير مسكّن بالإضافة لما له من نتائج إيجابيّة كالطمأنينة في نفس المريض و لا يتمّ ذلك إلّا بموافقة المريض و الطبيب الجرّاح وأيضا بعد خضوع طاقم التبنيج لتكوين شامل في التنويم و بعد إجراء اختبار لقابليّة المريض للبقاء تحت تأثير التنويم لمدّة طويلة
أقيمت في إحدى المصحّات الخاصّة بتونس سنة 2016 أوّل عمليّة على الدماغ تحت تأثير التنويم و هي عمليّة من أخطر ما يكون و دامت قرابة 6 ساعات لتكلّل بالنجاح لتكون تونس بذلك أوّل بلد عربي و ثاني بلد في العالم بعد فرنسا يراهن على التأثير المسكّن للتنويم و تمّ إلى حدّ الآن في تونس القيام بـ 6 عمليّات على الدماغ و عمليّتان على العظام تحت تأثير التنويم المغناطيسي و دون تبنيج و حاليّا يتم تطبيق هذا الأسلوب في 30 في المائة من العمليّات في أوروبا و يجدر التنويه أنه لا يمكن توظيف التنويم إلّا في عمليّات معيّنة و ليس جميعها نذكر منها عمليّات الغدد الدرقيّة و تركيب تقويم الصدر و الدوالي و علاج الحروق و جبر الكسور و جراحة الأسنان و التوليد و عمليّات التجميل
الشفط إصلاح اعوجاج الأنف ..
لن نفهم بشكل واضح علاقة التنويم بالإحساس بالألم دون أن نتطرّق لمعضلة أكبر ألا و هي كيفيّة عمل العقل البشري عند التعرّض للألم
هناك منطقة في الدماغ يرتفع نشاطها بشكل كبير أثناء تسليط عامل خارجي مؤلم على الجسم أو أثناء تخيّل التعرّض لتجربة مؤلمة و هي المنطقة المسؤولة على الشعور بالألم و تدعى بالقشرة الأماميّة المخيّة. أثناء التنويم، ينتج الدماغ كميّة كبيرة من الأندروفين و هي مادّة مسكّنة طبيعيّة للألم تؤثّر على نشاط القشرة الأماميّة المخيّة فينخفض نشاطها و بالتالي إلغاء الشعور الفطري بالألم
التنويم المغناطيسي الاستعراضي
وظّف التنويم أيضا على المسارح و في الشوارع و في السيرك في شكل عروض ترفيهيّة و ساهم التنويم الاستعراضي في التعريف بهذا العلم للعامّة كتجربة فريدة و أضرّ هذا بالتنويم الطبّي في أعين الناس حيث صاروا لا يأخذونه على محمل الجد و لا يؤمنون بنجاعته في العلاج
في مجال التحقيق الجنائي
يعتبر التنويم وسيلة علميّة حديثة في التحقيق الجنائي و إستنطاق المستجوبين من شهود و مشتبه بهم للوصول للحقائق قد يرفض الأشخاص البوح بها في حالة الوعي أو لجعلهم يتذكّرون بعض التفاصيل الذي تعذّر عليهم تذكّرها في حالة الوعي و تذكر بعض الإحصائيّات أنّه من بين 50 قضيّة أتاح التنويم الحصول على 60 بالمائة من المعلومات الإضافيّة و تعتمد عدّة بلدان متقدّمة على هذه الوسيلة في الاستجواب منها السويد حيث أدمجت التدريب على التنويم المغناطيسي في برامجها التعليميّة و أجازت إحدى المحاكم في الولايات المتحدة سنة 1926 للمتهمّ أن يستخدمه لإثبات براءته
في تشوشيلا بولاية كاليفورنيا الأمريكيّة سنة 1976، قام رجل مجهول بمهاجمة حافلة تحت تهديد السلاح فقام باختطاف السائق و 26 طفلا ثمّ وضعهم في عربة نقل. لحسن الحظّ، تمكّن المخطوفين من الهروب و بعد استجواب السائق، عجز هذا الأخير على تذكّر صفات السائق. أمّا بعد تعرّضه للتنويم المغناطيسي، تمكّن من تذكّر بعض أرقام العربة و صفاتها ممّا ساعد الشرطة على إلقاء القبض على الجاني
ثارت ثائرة الأطباء والمتخصصين في الـصحة العقليـة والنفـسية إزاء استخدام الشرطة الأمريكية للتنويم المغناطيسي و اعتبروا استخدام رجال الشرطة لهذه الوسيلة قد يشكل خطراً على صحة الإنسان و أنّ دفع بعض ضحايا الجرائم العنيفة كالاغتصاب لـاسترجاع تفاصيل الحادثة قد يؤدّي إلى الاضرار بنفـسيتهم و إثقال كاهلهم بمعاناة إضافية فوق معاناة الصدمات النفسية التي تسبّب فيها الحادث. كما يخشى البعض من قيام رجال الشرطة بالايحاء لعناصر الإجابة بقـصد أو بدون قصد أثناء العملية خاصّة بعد العثور في صيف 1980، في مدينة إيلينواي، على جثّة فتاة ذات 14 عاما معنّفة و مقتولة نتيجة لتعرّضها للخنق. و بعد استجواب الثلاث مراهقين الذين كانوا برفقتها آخر مرّة، قالوا بأنّهم لعبوا لعبة جنسيّة و رفضت الضحيّة الممارسة مع أحد الصبية في سنّها و يدعى بيلي. و عند استجواب هذا الأخير، بدا متوتّرا و قلقا و أكّد أنّه نسي تفاصيل تلك الأمسية الأخيرة مع الفتاة المقتولة مما كثّف حوله الشكوك
قرّرت الشرطة في النهاية أن تخضع الطفل للتنويم لتحصل علّه يمكّنهم من بعض المعلومات بعد أن تسلب منه الإرادة و أكد المحقق لعائلة بيلي أنّ التنويم سيساعده على الحدّ من قلقه و توتّره في سبيل إقناعهم بالفكرة في الأثناء، علم الطفل أنّ الشرطة تنتظر دليلا قاطعا لتدينه بارتكاب الجريمة
أثناء جلسة التنويم، غطّى المعالج جسد بيلي بغطاء وثير و أكّد له أنّ العمليّة ستساعده ثمّ طلب منه أن يتمدّد، أن يغمض عينيه، أن يأخذ نفسا عميقا، و أن يسترخي مع المحافظة على تركيزه ثمّ بدأ المعالج يوحي لبيلي أن يعود بذاكرته إلى الأمسية الأخيرة مع المجني عليها فاعترف فورا أنّه قام بكتم أنفاس الضحيّة بوسادة حتى الموت
لم يكن هناك أي دليل على إدانة بيلي بخلاف اعترافه تحت التنويم و دافعه القويّ الذي أدلى به بقية الفتية و هو رفض الضحيّة لممارسة الألعاب الجنسيّة معه وذكر الطبيب الشرعي في تقريره الطبي أنّ الضحيّة لا يمكن أن تكون وفاتها ناتج عن عمليّة خنق بوسادة و أنّ الخدوش الموجودة على صدرها لا يمكن أن يكون بيلي هو المتسبّب فيها
و من هنا زعم الدفاع أنّ شعور الطفل بيلي أنّه مشتبه به في القتل ظلّ راسخا في اللاوعي و هو ما جعل الطفل يزيّف اعترافه تحت التنويم و ربّما تمّ الإيحاء إليه بطريقة غير مقصودة أن يكون وراء الجريمة و هو مسلوب الإرادة فقامت مخيّلته باختلاق كلّ تلك الأحداث دون مقاومة بالإضافة إلى ضغط الذي مورس عليه من قبل الشرطة، أضاف الدفاع أنّ الطفل في تلك السن تطرئ عليه عدّة تغيّرات فيزيولوجيّة و نفسيّة فيشعر بالنضوج و رفض الفتاة لبيلي هو طعن في رجولته ممّا كوّن لديه بعض الأحقاد عليها التي كشف عليها في جلسة التنويم ربّما أراد في داخله أن يقوم بقتلها لكنه لم يجرؤ على فعل ذلك على أرض الواقع و في هذه الحالة قام بإختلاق بعض الذكريات ليرضي رجولته و هي بعض مخاطر التنويم ألا و هو ان يكذب الشخص ثمّ يصدّق أكاذيبه كأنّها حقيقة
كما أن مفاهيم العدالة الجنائية تشترط وجوب صدور الاعتراف أو الشهادة عن إرادة حرة ووعي كامل ، و قد أجمعت التشريعات الدولية والوطنية على حق المتهم في الامتناع عن الإجابة عن أسئلة المحققين وهو ما يعرف بحق الصمت بل قال البعض انه من حق المتهم أن يكذب في سبيل الدفاع عن نفسه،
تعددّت الأسباب التي جعلت بعض الدول المتقدّمة تمنع استخدام هذا الأسلوب بشكل قاطع باعتباره اعتداء على حريّة المتهم و شكل من أشكال التعذيب أو الخداع و منها فرنسا و ألمانيا
المخاطر
يعترف الأخصّائيون بوجود بعض المخاطر للتنويم شأنها شأن كلّ العلوم. قد يسبب التنويم أحيانا ضيق، دوّار، نعاس، صداع، اصطناع لذكريات مزيفة لا تمت للواقع بصلة و حتى لبعض الممارسات الجنسيّة الشاذة
عرض تنويم إنتهى بمأساة
تروي الكاتبة و عالمة التنجيم ميشيل داستييه في كتاب "التنجيم: الروحانيّة القاتلة" قصّة إمرأة عرفتها عن كثب دمّر عرض للتنويم المغناطيسي حياتها تقول: "كانت طفلة شقراء جميلة وجهها كالبدر كان كلّ ذنبها أن خرجت صحبة والدها الحبيب لمشاهدة عرض للتنويم المغناطيسي حيث تطوّع والدها ليخوض التجربة أمام الحاضرين و بحركة رشيقة غطّ الرجل في نوم عميق فأخذ المقدّم يرددّ على مسامعه:"أنت لا تعرف هذه الفتاة.. هذه الفتاة ليست إبنتك.. أنت قد أتيت وحيدا و لا تعرف أحدا من الحاضرين.. هيّا أذهب و أسألها عن والديها" ثمّ انتهى العرض بعد أن انفجرت البنت باكية وسط قهقهات الجمهور قرّر المنوّم أن ينهي العرض أخيرا فأوحى للرجل أن يستيقظ و كرّر العمليّة عدّة مرات لكن الرجل أبى هذه المرّة أن يستيقظ فاضطرب المقدّم و راح يسب و يلعن اللحظة التي فكّر فيها بمزاولة هذا العمل ثمّ صرخ في الحاضرين:"اتصلوا بالإسعاف"
لازم الرجل المستشفى لـ 24 ساعة قبل أن يستعيد وعيه ثمّ عاد إلى أسرته. و بعد أشهر، تغيّر سلوكه بشكل ملحوظ و كأنّ التنويم قد أخرج الوحش الكاسر منه حتّى صار رجلا غريبا على عائلته. صار يغتصب أبنته ذات التسع أعوام دون خجل و لا وجل و تمادى في الانصياع لرغباته الحيوانيّة و حتّى بقيّة أبناءه لم يسلموا من الاغتصاب. و قيل أنّ التنويم كان بمثابة بوّابة للعالم الآخر جعله يصاب بمس شيطاني.. مرت السنوات و صارت تلك الطفلة امرأة أربعينية مضطربة تعاني مشاكل نفسيّة حادّة، لقد أقدمت عدّت مرّات على الإنتحار أمّا إخوتها فأحدهم يقضي عقوبته في السجن بقضيّة الاعتداء بالعنف على أبنته "
في الواقع هذه ليست بالقصّة الوحيدة التي انتهت فيها عروض التنويم نهايات غير متوقّعة حول العالم، مما جعل بعض البلدان تتخذ قوانين صارمة بهذا الصدد حيث منعت بلجيكيا ممارسة هذا النوع من العروض نهائيّا بموجب قانون 1892
ولا ينصح للحوامل و الأطفال بالخضوع للتنويم و لا حتّى الأشخاص الذين يستعملون مجسّمات طبيّة و منظّمات لضربات القلب حيث قد يتداخل المجال المغناطيسي مع مجال عملها
كما يعالج التنويم حالات الإدمان يمكن أن يتحوّل هو نفسه لإدمان فينتظر منه البعض أن يحلّ لهم كلّ مشاكلهم و كأنّه عصا سحريّة فالتغيير نحو الأفضل لا بدّ و أن يمرّ بمراحل أساسيّة أوّلها السعي و الحركة مثلا عندما يبلغ متسلّق جبل شاهق، لابدّ و أنّه قد أجتهد و تمرّن و كرّس وقته ليتمكّن من بلوغه ربّما فشلت بعض محاولاته قبل وصوله أخيرا إلى القمّة و لابدّ و أنّه يشعر بالنشوة و الفخر
صفوة القول، التنويم قد يمكّنك من بلوغ غايتك دون المرور بكلّ تلك المراحل التي من شأنها أن تساهم في بناء شخصيّة متوازنة قويّة لتحمّل الصدمات.
ما حقيقة المشهد المثير للجدل في فلم "الآن أنت تراني" ؟
يروي الفلم قصّة أربع أشخاص أطلقوا على أنفسهم إسم "الفرسان الأربع" يقدّمون عروضا ترفيهيّة اعتمادا على مهاراتهم في ألعاب الخفّة و بعض الحيل النفسيّة
في إحدى المشاهد، يظهر الممثّل وودي هارلسن و الذي يجسّد في الفلم دور الفتى ميريت ميكيني و هو يقوم بعمليّة سطو مسلّح على زوجان في المطار دون أن يحمل أيّة أسلحة و دون أن يلفت إليه الأنظار سلاحه هو قدرته على التنويم أوّلا ثمّ الدخول إلى العقول و قراءة ما يجول فيها ثانيا و التي قد أتطرّق لها في مقال آخر. في بداية المشهد، أوقف ميريت رجلا و أخذ يتجاذب معه أطراف الحديث فلاحظ كأنّه يخفي سرّا ما، سر كفيل بتدمير زواجه. عندها قام بتنويم الزوجة ثمّ أوحى لها أنّ لسانها ثقيل و أنّها عالقة بالأرض ممّا جعلها عاجزة عن النطق و عن الحركة في تلك الأثناء بدا الرجل مرتبكا و يفكّر طوال الوقت في علاقته الآثمة التي تربطه بشقيقة زوجته فاستغلّ ميريت هذا السرّ ليبتزّ منه 250 دولارا كانت كلّ ما يملكه في محفظته
الزوجة قدمت لإستقبال زوجها العائد من رحلة "عمل" لم يكن لها علاقة بالعمل أصلا. أخذ ميريت يقرأ أفكار الزوج بصوت عال على مسمع من الزوجة التي بدت مصدومة تماما لكنّها عاجزة عن ردّ الفعل عندها أخبر ميريت الزوج أنّه قادر على جعلها تنسى الأمر برمّته بمجرّد إيحاء صغير مقابل أن يعطيه كلّ ما يملك طبعا لم يجرؤ هذا الخائن على المخاطرة بزواجه فما كان منه إلّا أن وافق
الجدير بالذكر أن الأسلوب الذي اعتمده ميريت في تنويم الزوجة هو أسلوب يعتمده الأخصائيّون وهي لقطة مدروسة تماما لكن هناك سؤال يتبادر للأذهان، هل فعلا يمكن لامرأة أن تنسى أمر خطير كتعرّضها للخيانة ؟
الجواب هو نعم مع بعض التحفّظات إذ يقول أخصائيون في علم النفس أنّه بداخل كلّ شخص يوجد جانب خفي فينا يتلقّى المعلومة فيحلّلها و ينتقدها و يحدّد ردةّ الفعل المناسبة لها حتّى تحفظ الكرامة يعني مثلا قد تصير تلك الزوجة شكّاكة جدّا، لن تثق في أقوال زوجها بعد ذلك، ستسعى لمراقبته على الدوام، قد تكره شقيقتها، قد تغار منها.. دون أن تجد مبرّرا لتصرّفاتها
ستتعلّم أن تتعايش مع الخيانة دون أن تتذكّرها و نوع من الوسواس القهري الذي يمكن أن يتسبّب فيه التنويم. ذلك المشهد جعل الرأي العام يتساءل: هل يمكن توظيف التنويم لغايات دنيئة كالسطو و إبتزاز الأموال ؟
الجواب هو نعم ويقول الطبيب النفسي جون ستراتون
يمكن تعلم تقنيات التنويم المغناطيسي تماماً كما يتم تعلم الجراحة الطبية سنوات مـن التـدريب والخبـرة الأمر نفسه بالنسبة للتنويم فالتقنيات بسيطة لكن الاعتبارات الأخلاقية والمهنيـة والمهارات تكتسب إلا مع الزمن
لكن فكّر قليلا عزيزي القارئ ماهو الأسهل بالنسبة إليك لو كنت لصّا ؟ أن تحمل سلاحا و تهدّد الضحيّة مباشرة ؟ أم أن تنوّم الضحيّة مغناطيسيّا ؟ انا شخصيّا كنت لأختار الحل الأوّل الذي سيوفّر عليّ الوقت و الجهد فالإلمام بفنون التنويم و أساليبه تتطلّب سنوات من التكوين و التلقين في المقابل سيكون الخيار الثاني مادّة دسمة للمخرجين و صنّاع الأفلام لإخراج فلم مميّز و مثير و هذا ما فعله المخرج لويس ليترير
يقول الناقدون أنّ النفس البشريّة أكثر تعقيدا بكثير من الصورة التي قدّمها الفلم حيث بدا ضحايا الفرسان الأربع كالعجينة في يد الخبّاز يتمّ تنويمهم و قراءة أفكارهم و فضح أسرارهم بكلّ سهولة بينما تحمل هذه الأساليب دائما نسبة من الخطأ و بالتالي فنجاح الحيل النفسيّة على كلّ من هبّ و دبّ في الفلم ما هي إلّا مبالغة من المخرج غايتها الإثارة و لو بنيت على حقائق علميّة
لو لم تشاهد فلم الخيال العلمي "الآن أنت تراني" فأنصحك بمشاهدته قلّة قليلة هي الأفلام التي تتطرّق لموضوع التنويم و هذه القلّة لا تضاهيه روعة وانفرادا
إنّ التنويم المغناطيسي قد ذكر في القرآن و في السيرة النبويّة من قبل أن يتطرّق إليه أي فلم و أي عالم . سلّطه الله و ملائكته على أبا جهل ابن أبي هاشم عندما أقسم أن يقتل الرسول أو أن يشرخ رأسه الكريم بصخرة، حيث حاصره في بيته و خرج الرسول فعلا من منزله لأداء صلاة الفجر أمام الجميع دون أن يتفطّن له أحد . عندها نعت أبا جهل الرسول بالساحر . يبدو أنّ الملائكة يومها قد مارست على أبا جهل و أتباعه التنويم الإيحائي و أغشت دماغهم و غيّبت وعيهم و تلاعبت بعقولهم.. يروي تعالى ذلك في سورة ياسين:" وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" وغيرها..
الأمم كلها عرفت من العلوم سرّ كتابنا و لم نعرف منه إلّا الحفظ و هذا حرام و هذا حلال و نحن عن علومه معرضون اللهمّ ألهم الأمة الإسلامية علما و حكمة.