يُروَى أنّ عصفورةً بيضاء بَنَت عشّها في شجرةٍ خضراء مزهرةٍ عند سفح أحد الجبال، حيث الجداول الرّقراقة وحقول العشب والرّوابي المُغطّاة ببُسُطٍ خضراء طيلة أيّام الرّبيع.
وكانت هذه العصفورة تطير من مكانٍ إلى مكانٍ، وتجمع لعشّها خيوط صوف المراعي والقش الرّقيق، وتمرّ ببيوت القرية الهادئة هناك، فتجمع منها ما سيجعل من عشّها بيتاً دافئاً لفراخها التي ستطير بعد زمنٍ لتملأ جوّ هذا السفح أغاني حلوة، وزقزقات تتناغم مع ألحان الجدول الرّقيقة.
بَنَت العصفورة البيضاء عشها الدافئ، ثم وضعت فيه بيضها، وراحت تضمّه فتراتٍ من النّهار طويلة، بينما تحلم بالفراخ وكيف سيكون لها مجموعة من العصافير ترافقها في أوّل طيرانها إلى الحقول القريبة والشجر المُثمر والمياه المُنسابة حتّى يشتدّ فيها الرّيش فتنطلق من بُعدٍ كما تنطلق كل العصافير بعيدةً عن أَعيُن الصّيادين.
وكان في جوار الشّجرة، التي بَنَت العصفورة البيضاء عشّها فيها، كوخ صغير يعيش فيه فلاّح وحيد، غالباً ما كانت تأكل من بين يديه كسرات الخبز وتلتقط من حقله الصّغير حبوب القمح.
وفي ليلةٍ من الليالي، بينما كان الفلاّح نائماً، سمعت العصفورة عواء ذئب راح يقترب، وكلّما أحسست باقتراب صوته لَملَمت جناحيها على بيضها ودبّ فيها الذعر من هذا الذئب الشرس. وفكّرت أن تنقل عشّها وبيضها إلى شجرةٍ ثانيةٍ، إلاّ أنّها وجدت أنّ ذلك مستحيل، وسيؤدّي ذلك إلى نهاية كلّ شيء.
وفي هذه الأثناء، كان الذّئب يقترب من الكوخ ، فخافت العصفورة على الفلاّح، فأسبلت جناحيها وطارت إلى شبّاك الكوخ، فوجدت الفلاّح يغطّ في النوم، فطارت من الشّباك حتى حطّت على وسادته، ثم راحت ترفرف بجناحيها فوق جبينه، فأفاق.
فجأةً، سمع صوت الذئب، فعلم أن العصفورة جاءت تنبّهه على الخطر المُداهم.
أمّا العصفورة فغادرت إلى عشّها وراحت تراقب الكوخ بخوفٍ. وجمع الفلاح المسكين نفسه، وأسلم رجليه في طريقٍ تبعده عن الذئب.
دخل الذئب الكوخ، فلم يجد إلاّ كسرات خبز وحبّاتٍ من الزيتون، وهرّة قابعة في زاويةٍ معتمةٍ، ما لبثت أن قفزت من الشباك واختفت.
أمضى الذئب ليلته في الكوخ. وعندما أشرقت الشمس، وبينما هو خارج من باب الكوخ، شاهد العصفورة مصادفةً تحوم فوق الشجرة، فالتفت يستطلع ما في الشجرة، فرأى العش والعصفورة قد حضنت فيه بيضها. وبسرعةٍ كالبرق، قفز على الشّجرة ووصل إلى العش وضربه بيده، فوقع البيض تحت الشجرة بينما كانت العصفورة تحوم مذعورةً باكيةً تحاول إبعاد الذئب عن بيضها.
ونزل الذئب عن الشجرة بسرعةٍ، ووصل إلى البيض وأكل بِنَهَم الجائع، فطارت العصفورة باكيةً وقالت له: كيف تأكل بيضي أيّها الذئب؟
فقال: إنّني جائع، ولا أجد ما آكله إلاّ هذا البيض . وحاول أن يضربها بيده، إلاّ أنّها طارت مسرعةً وحطّت في مكانٍ بعيدٍ، وراحت تبكي بيضها وتندب أحلامها وترى كيف تحوّلت الدنيا في نظرها من فرحٍ إلى حزنٍ.
مرّت الأيام والعصفورة حزينة، والذئب يلاحق فريسته كلّ يوم ويجلبها إلى الكوخ ليأكلها. أمّا الفلاّح فقد رأته العصفورة في مكانٍ بعيدٍ، وقد بنى كوخاً جديداً. ففرحت لأنّه لم يقع فريسة الذّئب الملعون.
جاء الشّتاء، وكانت الأشجار قد عُرّيت من أوراقها، وراح الثّلج يُجلّل الأرض بوشاحٍ أبيض جميلٍ، واضطرّ الذئب أن يبقى في الكوخ لا يبرحه إلاّ قليلاً لشدّة البرد.
وفي يومٍ مُشمسٍ، طارت العصفورة وراحت تشدّ بجناحيها صعداً حتّى وصلت إلى قمة الجبل. وهناك نظرت نحو السفح، فرأت الكوخ وهو مُكلّل بالثلج، والشّجرة عارية، فتذكّرت بيضها وراحت تبكي.
وتساقط من عين العصفورة دمعةٌ كبيرةٌ حطّت على حبّة ثلجٍ، فتدحرجت حبّة ثلج على حبّة ثانيةٍ، ثم تدحرجتا معاً على حبةٍ ثالثةٍ، وهكذا دواليك، حتّى شكّلت حبات الثلج كرةً بيضاء صغيرةً، راحت تتدحرج نحو السّفح. وكانت كلّما تدحرجت كبرت، والعصفورة فوق، تراقبها.
ازدادت سرعة الكرة، وكبرت كثيراً حتّى أصبحت كأنّها صخرةً كبيرةً. وفجأةً انقضّت كرة الثلج الكبيرة على الكوخ، وكان الذئب بداخله، فمات.
وهكذا انتقمت الأقدار للعصفورة البيضاء من الذّئب المُفترس. وطارت العصفورة فرحةً إلى الفلاّح، وأخبرته بما حدث للذّئب، وكيف تحوّلت قطرة الدّمع إلى كرة ثلجٍ كبيرةٍ. ففرح الفلاّح بذلك، وعاد يبني كوخه مُجدّداً.
أمّا هي فعادت إلى بناء العش، حيث سيكون لها هذه المرّة فراخ بعيدة عن الذئب المُفترس.