يروى أن ثلاث فتيات يتيمات كن يعشن حياة فقر وحرمان ، ولم يكن لهن معيل أو قريب يلجأن إليه في هذا الضيق الذي يخيم على حياتهن طيلة الأيام .
فكرن طويلاً بطريقة ينقذن أنفسهن بها من هذا الحرمان الذي يكاد يودي بحياتهن وهن ما زلن في مقتبل العمر . فلم يجدن طريقة أفضل من غزل الصوف وتطريز الثياب ، فرحن يعملن مجتهدات ليل نهار ليحصلن رزقهن ويدّخرن بعض المال للأيام السوداء التي غالبا ما كانت تمرّ بهن وتطيل المكوث لديهن .
وفي يوم توفيت والدة حاكم المدينة ، فأعلن الحداد في جميع أرجاء المدينة مدة أيام ثلاثة ، وأمر الحاكم ألا يضاء أي ضوء في أي مكان قبل أن تنتهي مدة الحداد .
ومرت الليلة الأولى من غير أن تشتغل الفتيات الثلاث إذ خفن أن يكتشف حراس الليل أمرهن . غير أنهن في الليلة الثانية لم يستطعن أن ينقطعن عن العمل ، فأنرن القنديل سراً ورحن يعملن خائفات ، وكان أن قرر حاكم المدينة أن يتأكد بنفسه من التزام أهل المدينة بأمره . فراح يدور في الشوارع حتى توقف أمام شباك منزل لمح من خلال ستائره ضوءا خفيفا ، فاقترب منه ونظر إلى الداخل ، وتناهت إلى سمعه كلمات للفتيات الثلاث وهن يحدثن بعضهن البعض.
قالت الأولى: لكن أتمنى أن أتخلص من هذا العمل المضني فأتزوج من طباخ قصر حاكم المدينة ، فتمتلئ معدتي وأنتهي من هذا الخوف الذي يتملكني كل ليلة عندما أفكر بالغد .
وقالت الثانية: لا تظني أنك وحدك التي تريد أن تنتهي من هذا العمل المضني ، فلقد تعبت يدي وعيني ، ولم أعد أطيق الصبر على العمل ليل نهار من أجل لقمة خبز آكلها وأظل في جوع . ولكم أتمنى أن يتزوجني أحد حراس قصر حاكم المدينة ، فأكتفي بمعاشه وأعيش معه عيشة مطمئنة .
أما الثالثة فكانت تسمع كلام أختيها وتضحك ، وبعد صمت قالت لهما: إن أحلامكما صغيرة جدا، أما أنا فإما أن أظل أعمل في ضوء هذا القنديل ، وأتعب عيني ويدي ، وأصبر على الجوع والعوز، وإما أن أتزوج من ابن حاكم المدينة .
وضحكت منها أختاها ملياً. أما حاكم المدينة فقفل عائداً إلى القصر . وعند الصباح طلب إلى الحراس أن يذهبوا ويأتوه بالفتيات الثلاث . فلما حضرن بين يديه قال لهن: لقد مررت البارحة بيتكن ووجدتكن قد أنرتن القنديل ورحتن تعملن في غزل الصوف وتطريز الثياب . أما علمتن أني أعلنت الحداد ثلاثة أيام بسبب وفاة والدتي وأمرت من في المدينة ألا يضيئوا قنديلا قبل ثلاث أيام؟
فقالت الأخت الوسطى: لقد عرفنا بأمرك يا سيدي الحاكم ، ولكن العوز قد أجبرنا على أن نتجاوز إرادتك ونضيء القناديل لنحصّل رزق نهار الغد .
وهنا قال حاكم المدينة للفتاة الأولى: أما أنت أيتها الفتاة ، فسنزوج منك طباخ هذا القصر . واستغربت كلامه، وكيف عرف أنها كانت تحلم بذلك ، لكنها لم تنطق بأي كلمة .
ثم وجه كلامه للفتاة الثانية قائلا : أما أنت فسيتزوجك أحد الحراس، أتوافقين ؟
أظن أنك توافقين، غير أن خجلك يمنعك من أنت تقولي أي شيء .
ونظر إلى الفتاة الثالثة ، وهي أصغرهن، وقال لها: أما أنت فستكونين وصيفة لابنتي .
وهكذا كان .
تبدلت حياة الفتيات الثلاث وبات عيشهن رغيداً .
وكانت الفتاة الصغرى ترافق بنت حاكم المدينة ، وتقوم معها بنزهات جميلة وتجلس إليها فترات طويلة في حديقة القصر . غير أن أحلامها غالبا ما كانت تحزنها . فلقد تحقق حلما أختيها ، أما هي فما زالت على حلمها القديم ، تتمنى أن تكون زوجة ابن الحاكم.
وفي يوم ، وبينما كانت في الحديقة ، تتأمل الأزهار وتفكر ، وهي وحيدة ، رأت بالقرب منها شاباً جميلاً ، توقف برهة من غير أن يتكلم ، ثم قال لها: أراك تجلسين هنا وحدك، أما لك من صديقة تجالسينها ؟
فقالت: إنني وصيفة بنت حاكم المدينة، وها أنا أنتظرها لتوافيني إلى الحديقة، حيث تحب الجلوس فترات طويلة من النهار .
وطالت نظرة الفتى إلى الوصيفة ، وبات يلتقيها مصادفة بين الحين والحين حتى جاء وقت رآها فيه واقفة قرب زهرات جميلة ، فأخذها بيديه وأسرع بها نحو القصر الذي صعد درجاته ، ثم دخل بها مع زوجة الحاكم، وقال لها :
أمي .. أريد أن أتزوج هذه الفتاة .
وحاول أن يتابع كلامه ، إلا أنه فوجئ بحاكم المدينة يدخل ، وبادره بقوله: ما بك يا ولدي ؟
فقالت الأم: لقد أحب وصيفة ابنتك ويريد أن يتزوجها .
وضحك الحاكم عندئذ ونظر إلى الفتاة وقال لها: لقد تحقق حلمك يا عزيزة ، فلقد سمعت تلك الليلة التي مررت ببيتكم فيها أنك تودين أن يكون زوجك ابن حاكم المدينة . وضحكت الفتاة في سرها ، وظلت ابتسامتها أجمل ما ضم قصر حاكم المدينة .