سوزان خواتمي
شوارع عريضة مكفهرة ببردها؛ لغٌة ليست أمه، شتائمُ يلوكها ليعدلها بما يتناسب مع غصته، ومحطة المترو، انتظار طويل. الكل في عجلة من أمره، لا يلحظون الرجل الذي نمت لحيته، وانحسر شعر رأسه، بين يديه جريدة فيها كل شيء إلا صورة لقيطة لمقهى.
***
هات نارة ياولد.
شيش بيش حاصرتك يا رزيل.
بنت ال تطلب مصاري كأني عم جيبها من التلة.
عيادته قريبة.. هون فشخة.. كشفيته أقل من غيره بيحن على المعترين متلنا.
في العتمة كل النسوان متل بعضها.
سيء الذكر صديقنا مراد الآغا سافر وكسر الجرة وراه.. قاطع العاطل.
موجود وغير موجود، يتحدثون عنه، فيستدير يشير إليهم لكن أحداً لا يراه، يلتقط ك َ ل الأحادي َ ث، ويعرف الأشخاص من أصواﺗﻬم. لولا غبش النافذة، وضعف البصيرة التي تعتمد على حاسة النظر فقط، لكان من السهل تمييز ذقنه المدببة، وعينيه الذابلتين، وشعره المحلوق على الزيرو بعد أن قرر التخلص من داء الصلع الذي يهاجمه، بيده لا بيد عمرو.. تثقل الهزيمة عليه، فيجاﺑﻬها بالعناد.
كما يجلس الرجال مباعدين بين سيقاﻧﻬم، يجلس هو مع أصدقائه. الحقيقة أن الصداقة ليست صفة دقيقة لوصف العلاقة بينهم، المكان فقط ما يجمعهم، بعدها يذهب كل إلى حال سبيله.
يلتقون في المقهى يتحلقون حول منضدة عتيقة تآكل خشبها، ترتكز إحدى أرجلها المخلوعة على غطاء زجاجة مشروب لتتوازن.
لساعات طويلة يتبادلون وجهات نظر، تفضي إلى المأزق نفسه، وكل حوار يجعلهم يتشابكون بألسنتهم، حيث لاشيء مؤكد، وحيث تصبح الكلمات سيدة موقف وغايته، مجرد (صف حكي).. يعلق على كتفه حقيبًة بأربطة جلدية، تحتوي كل ممتلكاته، وأوراقه الرسمية: الهوية الشخصية، جوازه خالياً من أي تأشيرة، مقالات لم تنشر سّودها، ذات حزن قديم ولم يعد إليها..
ومع لفافة تبغ تستقر عند طرف شفته، نجزم بأنه من المثقفين، ومثلهم لا يملك لأناقته أكثر من قميص وحيد، بياقة صينية، يشدها حول رقبته في حركة عصبية متكررة.
من خلال زجاج سيء الانعكاس يراقب مدينة تحتقره، فيتروي محاصراً بالتبغ، والأصوات التي تعلو، أو ﺗﻬمهم، أو تطلق ضحكات ماجنة، لنكت بذيئة يتبادلها معهم، يسخن الجو، وتتعالى وتيرة الاعترافات بقصص لصولات وجولات نصفها من بنات عقله، يؤلفها، ويرويها ثم يصدقها، فكفه لم تلمس جسد أنثى منذ سنين. مابين الحب والوعود والأزقة التي لا تفضي إلى شيء قضى السنوات الثلاثين الأولى من عمره.. حتى هاجر.
***
جلس على مقعد صغير، يحّوم رأسه بين متعجلين لا يرونه، كان يعلم أن التحديق يخدشهم. nobody but the Arabs, are doing that ينكس رأسه، يقشر الحلم الذي صاغه ذات قرار: بيدي لا بيد عمرو، استقر في قعر سفينة عبرت به اللاممكن إلى الممكن، الأشياء المدهشة كثيرة حد العجب، والألوان شديدة التأثير بالرغم من الشمس التي لا تسطع بسهولة.
يعمل في مكتبة لم يشتر منها كتاباً، يلمِّع الأرضية الخشبية والواجهات الزجاجية، يلامس الأغلفة وحروفها النافرة.
يتذكر كتب البسطات على الرصيف المقابل لمبنى البريد، والبائع ذو الأنف الأفطس الذي يجادله:
خلِصنا يا حجي.. ما إلك عندي غير 50 ورقة.
ما بتوفي يا أستاذ ما بتوفي.. إبراهيم الكوني ب 50 ليرة ..!.وين سمعتها هي؟.
يقتنع؛ يمد المئة ليرة؛ يضع الكتاب في محفظته، ممنياً نفسه بسهرة لطيفة.
إيما) الفتاة البولونية المهاجرة مثله تنتظره عند الطرف الآخر من المدينة، لجسدها رائحة الزعتر، احتما ٌ ل لفرح ما، لا تدفئ فراشه دائماً، فقد تختفي أحياناً لأيام، ثم تعود، يعلم بأنه ليس الوحيد، ويرغم نفسه على أن لا يعترض.
none of you
usiness أجابته ذات مساء أحمق أراد فيه أن يدس بين ثدييها علامَة حبه، شيًئا من غيرته؛ فشل.
لماذا يصِّر على حشر عاطفته في كل مكان؟.
امتحان صعب يدخله كل يوم لتحويل اشتعاله إلى جليد..
يلملم السترة الجلدية حول بدنه النحيل، ضاماً ركبتيه، نافخاً هواء أنفاسه بين كفيه.
الساعات الطويلة يقضيها صامتاً، يتذكر أنه فتح فمه لتنظيف أسنانه، ثم ابتسم ليلقي تحية الصباح على (ايما) وعلى (مسيو رودي) في المكتبة.
الثرثرة غي ٌ ظ أخرس، يتغرغر الكلام في حلقه، ويهمد هناك. قرر أنه لن ينام هذا المساء قبل أن يكتب رسالة لأصدقاء المقهى. سيفعل ذلك بعد أن يحتسي زجاجة البيرة الباردة، وبعد أن يضم (ايما) إلى صدره، سيخبرهم عن الشوارع المستكينة المستعجلة، وعن (رودي) المثّلي، عن ماكينات القهوة، والإفطار السريع داخل (المترو)، عن الساعات القلقة، سيحدثهم أيضاً عن جسد (إيما) الذي يزرعه كل ليلة دون أن يكون له شأ ٌ ن به، وسيخبرهم عن قطة مدللة، لعجوز تدخل المكتبة، وتوكله بالعناية ﺑﻬا.
***
منذ عشر سنوات، وتلك الرسالة تراود مراد الآغا فيما هو ينتظر المترو..
منذ عشر سنوات والنعاس يقطفه قبل أن يفعل.