هذا هو العصفور الصّغير عَصفر، وهو يعيش فوق نافذة الحمّام، وراء إطارها الخارجي، في عشٍ دافئٍ من القش والزّغب والورق، وغير ذلك من الأشياء النّاعمة، ولم يكن قد حاول أن يطير بعد، ولكنه كان يخفق بجناحيه، ويطلّ برأسه من العش كثيراً.
قال عصفر: أوه، كم أحبّ أن أتعرّف إلى دنيا الله الواسعة لأرى ما فيها.
قالت الأم لنفسها: أنا تركتُ صغيري في العشّ، يجب أن أذهب إليه حالاً.
عصفر: أمي.. أمي.. أريد أن أخرج مثلك وأطير.
الأمّ، تضحك: أتسمعون ما يقول؟ إنّه يريد أن يطير.
عصفر يُزقزق.
خاطبته الأم: تعال يا صغيري، تعال. افتح فمّك لأزقّ لك لقمةً يا صغيري.
ما هذه يا أمي؟
هذه دودة يا صغيري! خُذ، كُلها. كم فتّشت حتى جئتك بها!
شكراً، شكراً يا أمّي. (يحاول أن يقول شيئاً
نعم يا عصفر؟
متى أطير مثلك يا أمي؟
حين يصبح جناحاك قوييّن.
أنظري! أنظري يا أمي! أنا أطلّ برأسي إلى الخارج!
احذر يا عصفر! لا تطلّ برأسك إلى الخارج!
لماذا يا أمي؟
لئلا تقع.
أقع. كيف أقع؟ ما معنى أقع؟
تسقط على الأرض فتتأذّى وتتألّم.
أنا لا أقع.
بلى! تقع وتأتي الهرّة فتأكلك! تلتهمك فوراً!
تأكلني الهرة؟
نعم.
ما هي الهرة يا أمي؟
حيوان يعيش في المنازل، هَمّه أن يلتقط العصافير وخاصّةً الصّغيرة منها.
يأكلني أنا؟
نعم! ولذلك أقول لك: لا تفكّر يا عصفر بالخروج من العش إلاّ بعد أن تصبح قادراً على استعمال جناحيك لتطير بهما بعيداً عن كلّ أذى.
ولكنّني أحبّ أن أطير مثلك يا أمي!
انتظر يا صغيري! فمَع الأيّام ستنمو وتكبر، وتصبح مثلي قادراً على الطّيران والتّحليق.
هَه! أنظري! إنّني أحرّك جَناحي بقوّةٍ. هَه!
لا، لا، لا، هذا لا يكفي. لا تفكّر الآن في هذا الأمر، بل ابق في العشّ، لا تخرج منه. أنا سأعلّمك الطّيران حين تصبح قوياً. فهمت؟
نعم يا أمي.
سمع عصفر صوت ريح عاصفة فخاف وقال: ما هذا يا أمي؟
احتَمِ بي يا صغيري! شدّ نفسك إليّ! ابقَ إلى جانبي!
ما هذا يا أمي؟ لماذا؟
هذه هي الرّيح يا صغيري تهبّ علينا، وأن لم تخبّئ نفسك في داخل العش فإنّها ستحملك وتلقي بك إلى الأرض، فتأتي الهرّة وتأكلك يا حبيبي.
أه! لماذا تتحرّك الأشجار؟ لماذا تهتزّ؟ لماذا لا تتوقّف عن الإهتزاز؟ فتتوقّف الريح وأرتاح!
لا يا صغيري! لا! الرّيح تهبّ فتهز الأشجار وتهزّنا كلّنا!
لا، لا. قولي للريح أن تتوقف يا أمي! إنّها تزعجني!
لا، لا يا عصفر! أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً مع الرّيح. إنّها هي التي تعصف بنا وتهزّنا!
مرّ في تلك اللحظة فلاّح راجع من عمله إلى بيته. فنظر عصفر إليه، وقال: أمي! أمي! أنظري! هذا ليس له جناحان؟ إنّ الهرّة أمسكت به وقصّت له جناحيه!
ضحكت أمّه وقالت: هذا إنسان يا عَصفر! والإنسان ليس له جناحان مثلنا!
لماذا يا أمي؟
الإنسان يعيش بلا أجنحة، فهو يسير على رجليه.
لماذا ليس له أجنحة؟
قالت الأم لنفسها: إنّه يحرجني بأسئلته، ولا أجد له جواباً مُقنعاً!
سأل عصفر مِن جديد: لم تخبريني يا أمّي.. لماذا ليس للإنسان جناحان؟
الأمّ، مُحاولةً الإجابة: آه.. صحيح.. لو كان له جناحان لطار إلينا واصطادنا، كما أصطاد أنا وأبوك الحشرات لإطعامك!
غريب! قال الصغير مُتعجباً! لا بدّ أن يكون للجميع أجنحة مثلنا! ربّما الحياة على الأرض أسوأ منها في الجوّ! أنا حين أصبح كبيراً، سأجعل الجميع يطيرون مثلي تماماً. هكذا.. هَه.. أنا يا للأسف لا أستطيع الطّيران بعد!..
جلس عَصفر على حافّة العش، وجعل ينشد أشعاراً من تأليفه وتلحينه، بأعلى صوته، صوت زقزقة: مسكين! مسكين الإنسان! يمشي على رجليه، ولا أجنحةً له، وأنا الفرخ الصّغير غداً أطير لأبحث عن طعامي وآكله لأصبح مثل العصفور الكبير.
وراح عصفر يردّد أغنيته ويكرّرها، ويتحمّس لها، ويرفرف بجناحيه، ثم صاح: أنا أطير! أنا أطير! أنظروا آه! آه! لا أستطيع أن أرتفع! أنا أسقط! أنقذوني.. أنقذوني..
سقط عصفر من العش على الأرض، ولحقت به أمّه العصفورة، ولكن يا للواقعة! القطّة الحمراء ذات العينين الخضراوين كانت له بالمرصاد. نشر عصفر جناحيه ووقف يرتعد أمام القطة ويقول: أ.. أ.. أنا عصفر، تشرّفت بمعرفتك .. ليَ الشّرف، أنتِ الهرة.. أليس كذلك؟
صَرخت الأم خائفة: عصفر! عصفر! ابتعد عنها! أنا سأطير حولك وأدفعك بعيداً عنها! فهمتَ؟ ابتعد عنها.. واتركني أتدبّر أمري مع الهرة!
ماذا ستفعلين بها؟
لا عليك! ابتعد عنها! حاول أن تطير! رفرف بجناحيك وطر! طر إلى الشباك. عُد إلى عشّك. أنا سأنقر الهرة في عينيها وألهيها عنك وعنّي.
ومن شدة خوف عصفر، خفق بجناحيه.. وطار وحطّ على النافذة.
صاحت الأم: عصفر! عصفر! لقد نجوتَ يا حبيبي! ونجوتُ أنا أيضاً!
أمّي! أمي! ما أقواك يا أمي!
وأقبلت الأم إليه بمنتهى السعادة، ولكن القطة كانت قد قطعت لها ذيلها!
ها! لقد قطعت القطة ذيلك بسببي يا امي . بسببي يا أمي أنا (بتأثّر).. بسبب جَهلي..
قالت الأم: من أجلك يا صغيري كلّ شيء يهون!
على كل حال.. تعلّمتُ يا أمي!
صحيح! المرء لا يتعلّم كل شيء دفعةً واحدةً.
سأكون حذراً في المستقبل حتّى لا أقع ولا أتورّط ولا أورّطك!
عافاك يا عصفر!
وفيما كانت الأم تحضن صغيرها كانت القطة تموء وتقول: عصفور ناعم صغير، ولكنّني لم أتمكّن من أن أمسك به!
أرأيت ما كانت تريد القطة منك؟ الحمد لله سلمت أنتَ ولم أصب أنا بأذى كبيرٍ! قالت الام.