كان رباح شاباً قوياً، مات أبواه تاركين له أخا صغيرا راح يوليه كل عنايته ويقدّم له كل الحب ويرعاه. كان فيه رقة الأم وحنان الأب. وكان لرباح دكان صغير يبيع منه أهل القرية ما يحتاجون إليه.
أصاب رباح ربحاً كبيراً في عمله فوسّع دكانه وبنى قربه ملحمة كبيرة باتت تأتي إليها القرى المجاورة فتبتاع من قصّابها اللحم وتشتري من الدكان ما يتوفر فيه من الحاجيات.
وكان رباح بين شهر وشهر يركب عربته التي يجرها حصان قوي ويذهب إلى المدينة فيشتري منها كل ما ينقصه ويأتي بالكثير الكثير من أفخاذ الضأن والماعز. وللمدينة طريق واحدة بعيدة وموحشة، ويقع على جنبات الطريق واد عميق غالبا ما كان ينظر إليه رباح وهو خائف.
أما شقيق رباح، خالد، فكانت الأيام تمر وهو يكبر. فأدخله رباح المدرسة حيث أظهر حبا للدرس، وحيث وجد له في صفه أصدقاء يحبهم ويحبونه ويمضي معهم أوقات جميلة في نزهات آخر الأسبوع.
كان خالد بين الحين والحين يساعد أخاه رباح في الدكان والملحمة فأحبه الزبائن، وهو بشوش الوجه رقيق الكلام قريب الشبه بأخلاقه وتصرفاته من أخلاق رباح وتصرفاته.
وفي يوم وكان رباح يستعد للذهاب إلى المدينة، ألح عليه خالد كي يأخذه معه، فرفض رباح لأن الطريق موحشة ويخاف عليه من اللصوص ووحشة الطريق. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطلب فيها خالد أن يرافق رباح إلى المدينة، فلقد طلب منه من قبل مرات عديدة أن يرافقه. غير أن رباح كان يقنعه بأنه لم يزل صغيرا لزيارة المدينة.
غير أن اليوم كبر خالد فهو في الثامنة عشرة من العمر ويجب أن يشاهد شوارع المدينة ومخازنها والأزياء التي يرتديها سكانها. وازداد إلحاح خالد مما جعل رباح يرضى بأن يأخذه معه إلى المدينة .
جهّزا طعاماً لهما وارتديا ثياب السفر وحملا معهما علفاً للحصان وركبا العربة وانطلقا في الطريق إلى المدينة.
وفي الطريق راح خالد يتأمل المشاهد التي لم يرها من قبل وكان رغم وحشة الطريق فرحا بهذه الزيارة للمدينة ومتشجعا لوجود رباح معه.
وصلا المدينة عند غياب الشمس، وكان منظر المدينة ساحراً. فالأسواق ملأى بالمخازن، والشوارع مزدحمة بالمارة والأعمدة تتدلى منها القناديل بعد أن غربت الشمس. ودخل رباح وخالد إلى مطعم فيه أطعمة شهية فتعشّيا، ثم قاما بنزهة إلى حيث الألعاب والحدائق، وعادا إلى الفندق الذي ينزل فيه رباح عادة كلما جاء إلى المدينة.
في اليوم التالي، اشترى رباح كل ما يحتاجه دكانه، كما اشترى الكثير من أفخاذ اللحم وجهّز كل شيء في العربة. وبعد أن اشترى لخالد ثيابا جميلة وألعابا كثيرة وحلوى طيبة، صعدا إلى العربة وراح الحصان ينهب الطريق للعودة إلى القرية. ولكم كان خالد مسرورا بهذه الزيارة التي يحفظ الكثير من صورها في ذاكرته والتي بات مشتاقا للوصول إلى القرية ليخبر رفاقه عنها.
وفي الطريق وبينما كان الحصان مسرعا أحسّ رباح بأن العربة تسير مختلة الحركة فخفف من سرعة الحصان، إلا أن اختلال العربة راح يزداد. وفجأة تعطل أحد دولابي العربة وتوقف الحصان ونزل خالد ورباح، وراح يساعد كل منهما الآخر في إصلاح دولاب العربة. مر الوقت مسرعا، إلا أن الدولاب لم يكن جاهزا بعد لاستئناف الطريق. ومالت الشمس إلى الغروب وبدأ خالد يشعر بشيء من الخوف، غير أن الانتهاء من أصلاح الدولاب وتركيبه بسرعة أعاد إليه شيئا من الهدوء وسلام القلب خاصة وأن رباح قوي الجسد، قوي الإرادة .
استأنف الاثنان المسير. غير أن الشمس غابت وساد الظلام، ولم تزل الطريق طويلة.
راح رباح يحدث خالد لأنه شعر بأن أخاه خائف، وغالبا ما كان يتلعثم بكلامه وهو يرد على أسئلة رباح.
وفجأة سمع الاثنان صوت ذئب. فارتعد خالد. إلا أن رباح طمأنه فارتاح قلبه. غير أن أصوات الذئاب صارت تتكاثر إلى أن شاهد رباح ذئبا يلاحق العربة. فراح يضرب الحصان بالكرباج ويشد اللجام له، ويرخيه.
إلا أن الذئاب تكاثرت، وكان عواؤها يثير الرعب في قلب خالد الذي عبّر عن خوفه في ما كان يحدّث فيه أخاه رباح. أما رباح فلم يكن يفكر إلا بطريقة ينقذ بها أخاه من أنياب الذئاب.
خطرت لرباح فكرة، فقال لأخيه: قد أنت العربة واضرب الحصان بقوة، أما أنا فسأبعد الذئاب بأن أرمي لها فخذا فخذا من هذه اللحوم.
راح خالد يقود العربة، ويضرب الحصان ليزيد من سرعته. أما رباح فكان يرمي بين الفينة والفينة فخذا كي تتلهّى به الذئاب، ثم ما تلبث أن تسرع خلف العربة، فيعود رباح إلى رمي فخذ آخر لها.
وكان الحصان يسرع وكان السباق محتدما بين سرعة الحصان وسرعة الذئاب. ومرت فترة لم يبق فيها من اللحم إلا فخذان. فرمى رباح أول فخذ ثم رمي الثاني.
ومن بعد لم يجد رباح في العربة ما يرميه للذئاب. وبات الخطر يزداد، وبات رباح يفكر بطريقة يجب أن ينقذ بها أخاه خالد على الأقل.
قال رباح لخالد: لا تنظر إلى ورائك. قد العربة بالسرعة التي تقودها بها حتى تصل القرية.
وراح خالد يقود العربة ويجلد ظهر الحصان حتى شارفت العربة مدخل القرية وكان خالد مسرورا إذ أن أصوات الذئاب قد اختفت.
وصل خالد بالعربة إلى مدخل البيت، فتوقف الحصان وترجل خالد إلى الأرض، وقال لرباح : لقد وصلنا بخير.
غير أن أحدا لم يجبه. فنظر في العربة فلم يجد أحدا. صرخ خالد: رباح رباح !
ومن بعد، أدرك خالد أن رباح رمى بنفسه إلى الذئاب كي ينقذ أخاه من أنيابها.
ودارت الحكاية، وكان لرباح دمعة سقطت من جفن كل شخص في القرية.