قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرض كثيرة الماء والخصب، وكان ما بتلك البلاد من الوحش في سعة من الماء والمرعى. إلا أن ذلك لم يكن ينفعهما من خوف الأسد. فائتمرت تلك الوحوش واجتمعت إلى الأسد فقلن له: إنك لا تصيد الدابة منا إلا في تعب ونصب. وإنا قد رأينا لنا ولك فيه راحة، فإن أنت أمنتنا فلم تخفنا جعلنا لك كل يوم دابة ترسل بها إليك عند غدائك. فرضي الأسد بذلك وصالحهن عليه وقررن ذلك له. ثم غن أرنباً أصابتها القرعة فقالت لهن: ما ضركن إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن لعلي أن أريحكن من الأسد، فقلن: وما الذي تأمرين من الرفق بك؟ قالت: تأمرن من ينطلق معي ألا يتبعني لعلي أن أبطئ على الأسد بعض الإبطاء حتى يتأخر غداؤه. قلن: فلك ذلك. فانطلقت الأرنب متأنية حتى إذا جاوزت الساعة التي كان الأسد يأكل فيها تقدمت إليه تدب رويدا. وقد جاع الأسد حين أبطأ عنه غداؤه فغضب وقام من مربضه يتمشى حتى إذا رأى الأرنب قال لها: من أي جئت وأين الوحوش؟
قالت: كإني رسول الوحوش أرسلتني إليك وقد بعثنّ معي لك بأرنب. فلما كنت ههنا قريبا منك استقبلني أسد فأخذها مني وقال: أنا أولى بهذه الأرض ووحشها. فقتلت له: إن هذه غداء الملك أرسلت بها إليه الوحوش فلا تغصبنّه. فغضب الأسد وقال: انطلقي معي فأريني هذا الأسد. فانطلقت بالأسد إلى جب ذي صاف عميق فقالت: هذا مكان الأسد وأنا أفرق منه إلا أن تحملني في حضنك فلا أخافه حتى أريكه. فاحتضنها الأسد وقدمته إلى الماء الصافي فقالت له: هذا الأسد وهذه الأرنب. فنظر الأسد فرأى ظله وظل الأرنب في الماء فلم يشك في قولها، فوضع الأرنب ووثب لقتاله فغرق في الجب وأفلتت الأرنب وعاد إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد.
قال كليلة: إن أنت قدرت على هلاك الثور في شيء ليس على الأسد فيه مضرة فشأنك به. فإن مكان الثور قد أضر بك وبي وبغيرنا من جنود الملك. وإنت أنت لم تستطع ذلك إلا بشيء ينغص الأسد فلا تشترين ذلك بهذا، فإنه غدر منك ومنا ولؤم.
ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياما ثم أتاه على حال خلوة وفراغ منه متحازنا. فقال الأسد: ما لي أراك اليوم خبيث النفس ولم أرك منذ أيام؟ قال: ما يخفى عليك. قال الأسد: خير. قال: ليكن الخير. قال الأسد: هل حدث شيء؟ قال دمنة: حدث ما لم يكن الأسد يريده ولا أنا. قال الأسد: وما ذلك؟ قال دمنة: هو كلام غليظ فظيع لا يصلح
ذكره إلا على فراغ. قال الأسد: فهذه حال خلوة وفراغ فأخبرني بما عندك.
قال دمنة: إن كل كلام يكرهه سامعه لم يتشجع عليه قائله. فإن كان نصحاً فهو من قائله جرأة إلا أن يثق بعقل صاحبه المقول له ذلك. فإذا كان المقول له عاقلاً احتمل ذلك واستمع له لأنه ما كان فيه من نفع فهو للسامع. فأما القائل فإنه لا نفع له إلا أداء الحق والنصيحة. وإنك أيها الملك ذو الفضيلة في الرأي والعقل، فأنا متشجع لثقتي بك على أن أخبرك بما يكرهه الملك لأنك تعرف نصيحتي وإيثاري إياك على نفسي. فإنه ليعرض في نفسي أنك غير مصدق ما أنا ذاكر لك. ولكن إذا ذكرت أن أنفسنا، معشر السباع، معلقة بنفسك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني. وإن أنت لم تسألني أو خفت أن لا تقبله مني فإنه يقال: إن من كتم السلطان نصيحته أو كتم الأطباء مرضه أو كتم الإخوان فاقته فقد خان نفسه.
قال الأسد: ما ذلك الأمر؟
قال دمنة: أخبرني الأمين الثقة أن شتربة خلا برؤوس جندك فقال لهم: قد عجمت الأسد وبلوت رأيه وقوته ومكيدته فاستبان لي أن ذلك كله منه ضعف، وأن لي وله شأنا . فلما بلغني هذا عرفت أن شتربة خوّان كافر غدار بك قد أكرمته الكرامة كلها وجعلته نظيراً لنفسك. وقد تطلعت نفسه إلى أن ينزل بمثل منزلتك، وأنك لو زلت عن مكانك صار ملكنا. فهو لا يدع جهداً إلا بلغه فيك. فإنه قد كان يقال: إذا عرف الملك رجلاً قد كاد أن يساويه في المنزلة والرأي والهيئة والمال والمنع فليصرعه. فإنه إن لم يفعل ذلك كان هو المصروع. وأنت أيها الملك أعلم بالأمور وأبلغ فيها. وإني أرى أن تحتال لهذا الأمر قبل تفاقمه ولا تنتظر وقوعه. فإني لا أدري هل تقدر على استدراكه بعد ذلك أم لا. وقد كان يقال إن الرجال ثلاثة: حازمان وعاجز. فأحد الحازمين من إذا نزل به البلاء لم يدهش ولم يعيَ بحيلته ورأيه ومكيدته التي يرجو بها المخرج مما نزل به ولم يذهب قلبه شعاعا. وأحزم من هذا المتقدم ذو البعد في الرأي الذي يعرف الأمر مقبلاً قبل وقوعه فيعظمه إعظامه ويحتال له حيلة كأنه رأي عين فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل وقوعه. فأما العاجز فهو المتردد في أمره المتواني في رأيه المتمني فيما بينه وبين نفسه حتى ينزل به الأمر. وهو مفرد مضيّع حتى يهلك. ومثل ذلك مثل السمكات الثلاث.
قال الأسد: وكيف كان ذلك؟