يبلغ العم حارس من العمر حوالي ، خمسة وستون عامًا له عينان جاحظتان وأنف مدبب ويمتلئ وجهه بتجاعيد الزمن ، هذا العجوز طيب القلب الذي يعمل حارسًا لمقابر بلدتنا ، ولا ينفك أن يدع كل من مر به لتناول كوبًا من الشاي ، فعلى الرغم من عمله الذي ينقبض منه الكثيرون إلا أنه كان رجلاً طيبًا ، معروف عنه النقاء وصفاء النفس وصدق الحديث . في أحد الأيام خرجت أتجول في طرقات بلدتنا ، وقد كانت تشغلني بعض الأفكار من هنا وهناك ، وقادتني قدماي نحو منزل العم حارس ، فتوجهت إليه فدعاني لتناول كوبًا من الشاي برفقته ، فوافقت وجلست إلى جواره . جلست برفقة العجوز وبادرته متسائلاً ، عن هدوئه وهل يتملكه الرعب أو الخوف بين تلك المقابر الصامتة المخيفة ، فأجاب الرجل بأن الأموات غير مخيفين ، فهم بين يدي الرحمن عزوجل ، ولكن قد يرسل البعض منهم علامات أو دلائل لتخبرك أنهم يريدون شيئًا ما ، وقد اعتاد الرجل على تلك الإشارات والرسائل ، ولديه راديو قديم لا يغيره عن إذاعة القرآن الكريم ، ويعمل بنصيحة والده بأن يلتزم حجرته إذا ما شعر بشيء غريب أو مخيف. وروى الرجل أنه منذ سبعة أعوام ، أتى شاب وتم دفنه بالمقابر إلى جوار قبر الشيخ حسن ، والذي كان شيخ صالح وتقي ، وفي هذه الليلة وعقب أن تمت إجراءات الدفن وطقوسه ، جلست أمام غرفتي وأشعلت الموقد الصغير لأعد كوبًا من الشاي ، وفجأة وأنا ألتفت وجدت شخصًا يجلس إلى جواري ، لا أدري من أين أتى فسألته إن كان يريد كوبًا ، فنظر لي ولم يجب فأدركت حينها أنه ليس بشرًا مثلنا ! كانت بجواري قطعة خبز فنظر لها الرجل ، فسألته إن كان جائعًا فنظر لي أن نعم ، نهضت إلى حجرتي لآتي له بالطعام ، وعندما عدت لم أجد الشخص أو كوب الشاي ، فدخلت إلى غرفتي وأغلقت بابي وأنا متأكد بأنه ليس إنسانًا . عقب منتصف الليل سمعت طرقًا شديدًا على باب غرفتي ، فتساءلت من خلف الباب عمن يطرقه ، إلا أنني لم أسمع إجابه ، وبدأ الطرق ينخفض تدريجيًا ففتحت الباب لأجد أمامي ، قط أسود اللون يحمل قطعة خبز بفمه وإلى جواره كوب الشاي فارغًا ، تراجعت قليلاً إلى الخلف ، فدخل القط ووقف على بعد متر بيني وبينه ، ثم نظر لي وتحرك قليلاً ففهمت أنه يرغب بأنه أتبعه . حملت مصباحي الكهربائي وخرجت ماشيًا خلف القط ، الذي أخذ يتحرك في بعض الطرق يمينًا ويسارًا حتى وصلنا إلى مقبرة الشاب ، الذي دفن إلى جوار الشيخ حسن ، تحسست بيدي باب المقبرة وجدته مغلقًا فتجولت بعيناي ، يمينًا ويسارًا ولكني لم أجد شيئًا غريبًا ، واختفى القط .
حملت نفسي وتحسست طريقي إلى حجرتي ، وفجأة وأنا أنعطف نحو الحجرة وجدت القط جالسًا أمام الباب ، فاقتربت بالمصباح لأجد حجمه ليس بحجم قط بل أضخم ، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ، فسبقني القط إلى داخل الحجرة ولحقت به ، لأجده نائمًا أرضًا ، ثم نظر نحو الباب فوجدت خيالاً لشخص يقف عند الباب ، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم مرة أخرى ، ورفعت صوت القرآن القادم من المذياع ، وتوجهت نحو الباب حيث رأيت الخيال ، ولكني لم أجد شيئًا عندما خرجت . جلس القط يموء عند الباب ، فأحضرت له بعض الخبز والماء فأكل وشرب ، ثم اختفى مرة أخرى مع تواشيح الفجر ، وغلب العجوز النوم فاستسلم له . استيقظ العجوز في اليوم التالي ، وأخذ يدخن سيجارته ويفكر فيما حدث بالأمس ، ونظر فرأى شابًا يقف أمام مقبرة الشاب المتوفى ، فدعاه العجوز لتناول كوبًا من الشاي وسأله عن صديقه وقصة وفاته ، فأجابه الشاب بأنه كان يسير بسيارته على الطريق العام ، وإذا ببعض اللصوص ينطلقون صوبه لسرقته ، وعند مقاومته قاموا بشق بطنه ، ومات في الطريق إلى المشفى قبل إسعافه ، وسأله الدعاء لصديقه . ظل العجوز يفكر في القط ، حتى أسدل الليل ستاره وأثناء جلوسه لتناول الشاي كالمعتاد سمع صوت بكاء ، آتيًا من خلف الأشجار فحمل مصباحه وتقدم بخطوات بطيئة متثاقله ، ولكن شيء ما كان يدفعه للمضي قدمًا ، وما أن أزاح الأشجار حتى صرخ القط الأسود في وجهه بمواء ، أثار الرعب الشديد في نفسه ، وظل يرقبه بنظرات حادة ، والعجوز يعلم أنه ليس بقط . لم يتوقف الأمر وظل القط يظهر يوميًا ، عقب ظهور الشاب يطلب الطعام والشراب ، ثم يحمله القط ويختفي بعيدًا ، ولا يدري العجوز ما الذي يرغب به هذا الشاب أو يريده ، إلا أن عم حارس يغلق باب حجرته كل ليلة كما علّمه والده منذ الصغر .