لم يكن يمثل لي شيء ، لم أكن أحبه أو أكرهه بل لم أكن أفكر به اطلاقا ، إنه واحد آخر لا تستطيع أن تتوقف أمامه طويلاً ، لكنني إذ أصفه أستطيع أن أقول إنه كان عجوزًا لطيفًا . هدوء في مواجهة سخافات الآخرين : رمز حقيقي للرجل المسالم ، مسالم أكثر من اللازم ربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يميزه ، يحيا حياة قطعية هادئة ، لديه قدرة هائلة على التحكم في الأعصاب ، وتجاوز سخافات الآخرين ، حتى عندما كنت أراه سائرًا في الشارع أجده منكمشًا على نفسه ، يسير بجوار الحائط بالمعنى الحرفي للكلمة . أصوات غريبة ليلاً : كما قلت لم يكن هناك ما يجعلني ألتفت إلى وجوده أو أهتم به ، حتى بدأت تلك الأصوات الغريبة ، تصدر من حجرته ليلاً ، عندها بدأت أشعر بالقلق ، شيء لا أفهمه يرتعش بداخلي ، عندما يتسلل ذلك الصوت إلى حجرتي ، صوت غريب مبهم لا أستطيع وصفه ، يبدو أحيانًا كمزيج من عدة أصوات لا تستطيع تمييزها ، أو فصلها عن بعضها ، أحيانا كان الصوت يتخذ طابعًا وحشيًا غريبًا ، كصراخ كائن أسطوري في غابة مظلمة بعيدة ، أحيانا أخرى كان يبدو كصوت شخص يئن أو زئير خافت لأسد جريح ، وعندها كنت أشعر أن طبقات صوت ترتعش ارتعاشا غريبًا ، كأن الصوت ذاته يتألم . فيروس الفضول اللعين : عادة ما كنت أتجاهل تلك الأصوات ، أسد المسام التي يتسرب منها الخوف إليّ ، رافعًا صوت المذياع لتغطي ضوضاؤه على كل صوت عداها ، لكنني بمرور الوقت بدأت أهتم !! فيروس الفضول اللعين ، يتسلل إلى دمي ويوقظ بداخي الرغبة في أن أعرف ، النار المقدسة تغريني بسرقتها ، تغريني بكل جبروتها وسطوتها ، ولا استطيع سوى أن استجيب . تصرفت مريبة : شيء آخر أجج الفضول بداخلي ، فبينما أكون عائدًا من إحدى جولاتي المسائية في أمسيات الصيف الحارة ، أرى نوافذ حجرته مغلقة ، على الرغم من كونه بالداخل كما كنت أعرف ، لم يجلس في هذا الحر الخانق ؟ ما الذي يخفيه ويخشى أن تظهره النوافذ أو يخشى هروبه ، ليتني أعرف ، نيران فضولي تتصاعد إلى السماء ، وفي النهاية كان لابد وأن أحترق .
شجار من طرف واحد : وكان الشجار ، عندما سمعت الضجة خرجت لأستطلع الأمر ، فرأيت ساكن الطابق الثالث ، غليظ الصوت ، والملامح والطباع ، يمسك بتلابيبه ويهزه هزًا ، ولم يتطور الشجار أكثر من ذلك كان قريب إلى شجار من طرف واحد ، لم ينطق هو بكلمة ، فقط ابتسم ابتسامة باهتة ، واعتذر للرجل عن شيء لم أتبينه ، ثم انسحب بهدوء إلى حجرته ، وأغلقت أنا الآخر باب حجرتي ، وحاولت العودة إلى ما كنت أفعله قبل أن يقاطعني إلى ما حدث ، لكن الأصوات الصادرة من حجرته على ذلك! خوف وطرقات على الباب : ليلتها اتخذت الأصوات طابعًا غريبًا ، رهيبًا أكثر من أي وقت مضى ، عواء شياطين تتلوى في الجحيم ، صرخات العنقاء في الأزمنة السحيقة ، شيء يتجاوز الوصف والكلمات ، جمدني الخوف للحظات ، لكن الفضول ، الفضول اللعين ، عاد يحركني ، نهضت متسللاً على أطراف أصابعي ، ووقفت أمام باب حجرته ، أجفلت للحظات من عنف الصوت الذي أخذ في الارتفاع شيئًا فشيئًا ، ثم مددت يدي المرتعشة وطرقت الباب ، لا أحد يجيب ، طرقت بإلحاح أشد ، كأن يدي تحررت وحدها من قبضة الخوف ، أصبحت تتصرف بشجاعة غير عادية ، ازداد الصوت وحشية وفظاعة ، ويدي مازالت تطرق الباب ، وانفتح الباب . ظهور الأشباح والمطاردة : ظهر من ورائه بوجه شاحب مرهق ، تصفد منه العرق ، ترنح للحظات وهو يتعلق بالباب ثم حرك شفتيه الجافتين ببطء ، وقبل أن ينطق بكلمة سقط مغشيًا عليه ، اندفعت باتجاهه لأنقذه من سقطته ، رأيت الهول ، اهتز جسده المسجي فجأة اهتزازًا عنيفًا وبدأت كيانات سوداء غريبة تخرج منه ، أشباح مريعة لها صوت كعصف الريح اندفعت نحوي ، وتراجعت بظهري إلى الوراء ، واندفعت إلى الدرج ، أشعر بأطرافي الباردة تترجرج ، ومن ورائي كنت أسمع صوت صفير غضب الأشباح الناري يطاردني ، كأنني في كابوس حقيقي ، مجسم ثلاثي الأبعاد ! الهروب من الأشباح الغاضبة : استطاع واحد منهم اللحاق بي ، لمحت هيئته المشوهة ، الذائبة الملامح ، تصلبت صدمني بعنف على كتفي ، سقطت متدحرجًا على الدرج ، دمت شفتي السفلية لكنني لم أهتم ، لملمت بقاياي المبعثرة ، ونهضت مواصلاً فراري التاريخي ، سمعت أبواب الشقق تنفتح ، يريدون أن يعرفوا ما الذي يحدث ؟ ليعرفوا إذن. مواصلة الهروب بجنون : سمعت أصوات أصوات صراخ وعويل ، وأجساد متدحرجة من ورائي ، أجري وأتعثر وأنهض ، وأجري من جديد . اندفعت على وجهي في الشارع المظلم ، البناية تبتعد وتغيب في الظلام ، وأنا أواصل جريي المحموم ، كل من رآني حسبني مجنون ، حافي القدمين ، أرتدي منامة منزلية متسخة ، عيناي مذهولتان ، وأصرخ بلا انقطاع وأجري ، أهرب وأهرب ولا أستطيع توقيف هربي الجنوني ، ناسيًا حتى من أكون ، لم أجسر إلى العودة هناك قط . الرجل المسالم : فيما بعد صرت أتنسم الأخبار من بعيد ، عرفت أنه مازال يعيش هناك ، وأنه لايذكر إطلاقً شيئًا عما حدث ، وأنه مازال كما هو الرجل المسالم الهادئ ، لكن أحد لم يجسر من وقتها على إغضابه قط !