نشأ يتيمًا، فقد مات أبوه وهو في الثانية عشرة من عمره، فكفلته أمه التي كانت تعمل في بيوت الجيران، لتأتي له بفضلات الطعام مساء يسد بها رمقه، وبالثياب القديمة ليواري بها عورته، وبالدراهم القليلة لتؤدي منها أمه أجرة غرفتها التي استأجرتها في دار قديمة، أكل عليها الدهر وشرب .
وأنهك أمه العمل في بيوت الجيران، فسقطت مريضة بالتدرن الرئوي، ولما لم تجد من يطعمها ويرعاها، لجأت إلى المستشفى الحكومي، حيث وجدت ما تأكله ومن يرعاها من الممرضات، ولكنها لم تتحمل وطأة المرض الذي هد بدنها، ووطأة الحزن الممض على ولدها الصغير الذي بقي وحيدًا في غرفتها، فأصبحت الأم تعاني مرضين: مرضًا يحطم جسدها الضعيف، ومرضًا يحطم نفسيتها المعذبة , وذهبت الأم إلى جوار ربها، وبقي الولد إنسانًا بلا غد .
وترك الولد مدرسته؛ لأنه اضطر إلى العمل في البناء عاملاً بسيطًا بأجر زهيد، وبالتدريج تدرب على البناء، فأصبح بعد مضي السنين من الذين يتقنون حرفة البناء، فتحسنت حالته الاقتصادية، وأصبح يعيش عيشًا رضيًا , وقرر في يوم من الأيام أن يكمل نصف دينه بالزواج، فتقدم إلى أستاذه في حرفة البناء طالبًا يد ابنته، فوافق الأب، وزفت العروس إلى بعلها .
وتعاقبت السنون، فأصبح صاحب دار مستأجرة, وزوجة أولاد، ومعروفًا بإتقانه حرفته، وأمانته في عمله، وإخلاصه بأداء واجبه.
وتكاثرت عليه الزبائن، فكان يعمل في الأسبوع سبعة أيام، لا يكاد يرتاح يومًا من الأيام، أو ساعة من الساعات، وكان عليه أن يعمل يوميًا لينفق أجره اليومي على عائلته التي أصبحت تزداد كل عامين تقريبًا بمولود جديد.
وحرص على تعليم أولاده، وكان يقول لزوجه وأولاده: تعبت في حياتي كثيرًا، وأتمنى أن ترتاحوا في حياتي وبعد رحيلي بإذن الله.
وتخرج ولده البكر في الجامعة، فأصبح موظفًا في الدولة، وكان الأب قد قارب الخمسين من عمره، وكان لا يزال يعمل في حرفته، وكانت شهرته قد ازدادت بقدر ازدياد ضعف بدنه وازدياد علله وأمراضه.
وتزوج ولده من زميلته الجامعية، التي اشترطت عليه أن يغادر بيت أبيه وأمه، وأن يستأجر دارًا مناسبة ويشتري سيارة جديدة، وأن يجهز داره بالأثاث الفاخر، والفراش الوثير، والثلاجة المبردة، والغسالة الكهربائية.
وانصاع الولد لأوامر زوجه، فهي جامعية من عائلة غنية معروفة، فلا بد من أن ينفذ أوامرها بدون مناقشة ولا اعتراض , وأصبح الولد ينوء بأعباء ديون ضخمة، وعليه أن يدفع أجرة الدار وتكاليف الماء والكهرباء والهاتف وأجرة الفلاح، فارتبكت أموره المالية، فكان لا بد من إجراء يخفف عنه ما ينوء به من أعباء .
وكان والده يتمنى أن يعينه في سدَّ بعض أقساط ديونه المستحقة عليه ولكنه كان مسؤولاً عن إدارة بيته وأولاده الذين لا يزالون في المدارس والجامعات، فعجز عن معاونة ولده بالمال، ولكنه كان يحمل هموم ولده مرتين: مرة لشعوره الأبوي، ومرة لعجزه عن المعاونة.
أما زوجته الجامعية، فكان مرتبها لا يكاد يسد نفقاتها الشخصية: ملابس، وأدوات للتجميل، وقبولات، وزيارات، وحفلات ترفيهية، فكانت تستعين بزوجها في سد نفقاتها الكبيرة، بحجة الظهور بمظهر لائق بزوجة جامعية مثقفة.
وكان الولد قد استملك قطعة من الأرض بثمن رمزي من جمعية بناء المساكن في الوزارة التي يعمل فيها موظفًا.
وتبرع له والده ببناء دار له، وتكفل بدفع ثمن مواد البناء ونفقات العمل، وبدأ بالبناء، وارتفع البنيان شيئًا فشيئًا، حتى فرغ من بناء الدار خلال عامين.
وكان شرط الوالد على ابنه، أن يشاركه في سكنى الدار الجديدة، خاصة أن أولاده وبناته أكملوا دراستهم، فتوظف البنون وتزوجت البنات ولم يبق في الدار المستأجرة غيره وغير زوجه , وفجأة توفيت أم الأولاد، فأصبح والده وحيدًا , وانتقل الولد إلى داره الجديدة وانتقل معه والده الذي كان قد بلغ الستين من عمره، وانتابته العلل والأسقام، وأصبح لا يقوى على مزاولة حرفته في البناء .
وبدأت مشاكل الولد مع أبيه العجوز العاطل عن العمل، وأخذت تلك المشاكل تتفاقم يومًا بعد يوم، حتى أصبحت الحياة البيتية لا تطاق.
فقد كانت زوجة الولد تتبرم بوجود أبيه معهما في الدار، فتزعم تارة بأنه يتدخل في شؤونها الخاصة، وتزعم تارة أنها لا تقوى على خدمته، وتتهمه مرة بأنه يشيع الفوضى في الدار، وينقل الأمراض إلى أولادها، وتتهمه مرة أخرى بأنه لا يعرف متطلبات الذوق السليم ولا يلتزم بالعرف السائد في المجتمعات الراقية .
وأخيرًا انفجرت كالبركان الثائر وهي تقول لزوجها: إما أن يبقى والدك في الدار، وإما أن أبقى أنا، فاختر بقائي أو بقاءه , أنجز الوالد بناء دار ولده خلال سنتين، وكان بإمكانه إنجازها خلال شهرين .
لقد كان يعمل في دور الزبائن يوميًا، فإذا انتهى موعد عمله، استراح قليلاً ثم باشر عمله ثانية في عمل إضافي جديد هو ومن يتطوع للعمل الإضافي من العمال الآخرين الذين يعملون معه، وكان هدفه من هذا العمل الدائب اليومي هو جمع المال لبناء دار ولده، فقد تعهد أن يبني دار ولده على نفقته الخاصة .
فإذا جاء يوم الجمعة من كل أسبوع، بكر في الذهاب إلى عمله في بناء دار ولده، ومعه عماله الذين يعملون معه في البناء , وكان عمله يوم الجمعة يبدأ مبكرًا وينتهي في الهزيع الأول من الليل، وكان أكثر عماله يتنازلون عن أجورهم اليومية إكرامًا له؛ لأنه رئيسهم في العلم، وأستاذهم في المهنة، ووالدهم في التدريب على مهنتهم في البناء.
وقد كان الوالد يصاب بالزكام أو الصداع في الشتاء، فلا يعفي نفسه من عمله اليومي ليستريح.
وكان الوالد خلال عمله في دار ولده يقتر على أهله في الدار، لينفق على شراء مواد البناء من حصيلة أجوره الأسبوعية، وكان يستفيد من فضلات مواد البناء التي تتبقي في أبنية زبائنه التي يقدمونها له بدون عوض إكرامًا له وتقديرًا.
على كل حال، استطاع الوالد أن يبني دار ولده بعرق جبينه وعلى حساب صحته وعافيته ومأكله وملبسه هو ومن يعول , ولكنه ما كاد يستقر في الدار الجديدة مريضًا، حتى بدأت مشاكله مع زوجة ولده، التي تصر على أن يصفو لها الجو وحدها في الدار، لتأخذ حريتها كاملة وتتصرف في الدار وخارجها كما تشاء .
كان طعامه في دار ولده من فضلات الطعام، وكان يتناول تلك الفضلات وحده على انفراد، بعد أن يتناول ولده وزوجه وأولادهما الطعام .
ومنذ دخل الدار، لم تغسل ثيابه في الدار، بل تغسل في خارجها بيد امرأة عجوز تتكسب من غسيل ثياب وألبسة الجيران , أما فراشه، فبقي على وضعه منذ دخل الدار، لم يبدل منه شيء، ولم يسوَّ أو يعدل أبدًا، ولم ينظف ولم تنظف الغرفة التي يعيش فيها الوالد المريض .
وكان ولده لا يراه إلا في وقت حمل فضلات الطعام إليه، فتبقى فضلة تلك الفضلات إلى أن يعود إليه بفضلات جديدة صباحًا أو ظهرًا أو مساءً. وإذا حدث أن اشتهى الوالد نوعًا من أنواع الأطعمة، أجابه ولده زاجرًا: هذا هو الطعام المتيسر، وهنا ليس مطعمًا لتشتهي ما تريد! وإذا اجتاحه المرض واشتدت آلامه، وسأل ولده أن يحمله إلى طبيب أو يستدعي طبيبًا، أجابه ناهرًا: وماذا عسى أن يصنع لك الطبيب؟! أما زوجة ولده، فلا تدخل غرفته ولا تزوره مريضًا، ولا تكلمه أبدًا، وتمنع أطفالها من زيارته أو عيادته وحتى من دخول غرفته .
ودخل الولد غرفة والده ليطرده من الدار، إرضاء لزوجه وحرصًا على عدم تنفيذ وعيدها بمغادرة الدار.
كان ذلك في الساعة الرابعة عصرًا في يوم مطير شديد البرد من أيام الشتاء.
وكان الوالد الشيخ المريض، قد اشتد عليه المرض، ينتابه السعال القاسي، ويكتم أنفاسه مرض الربو، وهو مصاب بالسكر وارتفاع الضغط والزكام .
ولم يكلم الولد أباه، بل انحنى على فراشه القذر الممزق ولف والده به، ثم سحب الفراش المهلل سحبًا، فلما بكى والده، وهو يسحب من غرفته إلى الشارع، انهال عليه ولده ضربًا ورفسًا .
واستقر الفراش وعليه الوالد الشيخ المريض في الشارع، والبرد شديد والمطر ينهمر.
وعاد الولد إلى الدار، وأغلق بابه، ولجأ إلى المدفأة كأنه أحرز انتصارًا في معركة حاسمة، وزوجه تبتسم له مشجعة معجبة ببطولة زوجها، فقدمت له الشاي هدية على إيثاره لها على والده .
وتجمع المارة حول الفراش المبلل بالمطر الغزير، فلما فتحوه وجدوا الرجل قد فارق الحياة .
وجاءت مفرزة من مفارز الشرطة، فوجدوا الدم المتدفق من فم المتوفى ورأسه قد لطخ الأسمال البالية التي تسمى مجازًا : الفراش .
وأحيل الولد إلى المحاكم بتهمة قتل أبيه، فحكم عليه بالسجن المؤبد وعادت الزوجة الجامعية إلى أهلها ومعها أولادها، وبقيت الدار خالية من السكان , وعرضت الدار للإيجار دون جدوى.
وقضى الولد في السجن خمس عشرة سنة، تزوره زوجته مرة أو مرتين كل عام .
وصدر العفو عن المسجونين في مناسبة من المناسبات السياسية، فأخبر مدير السجن الزوجة بأن زوجها المحكوم عليه بالسجن المؤبد، سيغادر السجن صباح اليوم التالي.
وقدمت زوجه برفقة ولدها الذي أصبح موظفًا إلى السجن، وكان ولدها يقود سيارته .
وجاءت الزوج مع ابنها الموظف بسيارته، فلمح الولد أباه يغادر باب السجن، ولمح الوالد زوجه وابنه , وأسرع الوالد للقاء زوجه وولده، وأسرع الولد بسيارته نحو والده , وبحركة لا إرادية، اصطدمت سيارة الولد بالوالد صدمة عنيفة، فسقط الوالد أرضًا , وارتبك الولد، فضغط على مكبس الوقود بدلاً من الضغط على كابحة السيارة لإيقافها ؛ فهاجت السيارة وعبرت على جسد الوالد .
وترجل الولد من سيارته، فوجد والده يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدم يتدفق من فم والده ورأسه .
قتل والده فتدفق الدم من فمه ورأسه، وقتله ولده فتدفق الدم من فمه ورأسه .
وأطلق سراحه من سجنه المؤبد سلطان الأرض، فأعاده إلى السجن المؤبد في القبر سلطان السماء والأرض .
أما زوجه الجامعية فأصبحت أرملة إلى حين وهو سجين وأصبحت أرملة من بعده إلى الأبد .
وأما داره فخلت من سكانها انتظارًا لإطلاق سراحه، وهي إلى اليوم خالية لم يقدم أحد على سكناها من أهلها أو من المستأجرين .
لا يقدم على إشغالها غير أصحابها، لأنهم يقولون: هي شؤم على من يسكنها، ومضى عليها عشرون سنة، وهي خاوية على عروشها، لا تباع ولا تؤجر! وقد أصبحت خرابًا لا يدخلها أحد ولا يعمرها إنسان .
لقد أصبحت تلك الدار مقرًا للبوم، ينعق بها، كأنه يذكر الجيران بأنين الوالد القتيل .
فويل لمن يقابل والديه بالعقوق
لاتنسى مشاركة القصة والتطبيق مع اصدقائك
(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى)
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا
(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى)