لا شك أن للأمثال الشعبية مكانة كبيرة لدى العرب ، يتوارثونها جيلا بعد جيل ، كأنها تاج على رؤوسهم يورثونه أبنائهم ، ولأن العرب كانوا أفصح أهل زمانهم لغة ، وكثر فيهم الخطباء والشعراء الذين كانوا ينشدون الحكمة والشعر في كل موقف يقعون فيه ، تفوقوا في إطلاق الأمثال والحكم ، وهذا المثل لذو رعين الحميري ، وهو الذي أنقذه من القتل ! لا تتعجب فللأمثال قوة عليا تحفظ أهلها أو تخسف بهم الأرض ، فعلى حسب ما قيلت أو فيما قيلت يتحدد الأمر.قصة المثل :
لما تفرقت حمير على ملكها حسان الذي بغي واستكبر ، وكان يعاملهم بسوء ، قلبوا أخيه عمرو عليه وقد كان يعلم ببغي أخيه ، وخيروه ما بين قتل أخيه وبقاء الملك في دارهم ، أو عدم قتله ، وثورتهم عليهم ، فلان لهم عمرو ورغب في قتل أخيه ، ولما أخذ يسأل مستشاريه في هذا الأمر شجعوه عليه ، ولم ينهاه سوى ذو رعين الحميري ، ولكنه لم ينتهي ولم يسمع له ، فكتب ذو رعين بضع كلمات في صحيفة وختمها ، وأحكم غلقها وطلب من عمرو أن يحفظها بخزانته حتى يحين وقتها.ولما قتل عمرو أخيه ، وولي حكم حمير من بعدها ، لم يذق الراحة وأخذ ضميره يؤنبه وعصى عليه النوم كلما رقد في فراشه ، ولم يجد من يعالجه مما هو فيه من سهٍر وأرق ، وحينها أفهمه الحكماء أنه ما قتل رجلًا أخاه أو قريبًا له إلا حرم عليه النوم ، وذاق من ضميره الآمرين ، فقرر عمرو حينها أن يقتل كل من شار عليه بقتل أخيه من زعماء حمير انتقامًا منهم ، حتى جاء دور ذي رعين.فقال له أيها الملك الكريم : اعلم أني نصحتك بعد قتل أخيك ، ونهيتك لكنك لم تستمع لي ، وفي خزانتك ما يثبت صحة قولي ، ويعضد موقفي ، فأعطني الصحيفة المختومة التي تحفظها بخزانتك أعطيك ما يثبت براءتي ، ولما جاء عمرو بالصحيفة وجد ذو رعين قد كتب فيها :ألا مَنْ يَشْـتَـرِي سَهَـراً بنَـوْم
سَعِـيْدٌ مَنْ يَبـيتُ قريـرَ عَيْنِ
فأمـا حِمْـيَرٌ غَدَرَتْ وَخَـانَتْ
فَمَـعْـذِرَةُ الإِلهِ لِذِيْ رُعَـيْنِفلما قرأها أدرك الملك أن ذو رعين لم يعينه على القتل ، فعفا عنه وأحسن جائزته.