قرأنا حكايات وأخبار تتصل بالعهد النبوي ، وبعهد الصحابة ، وبعهد الخلافة الراشدة ، وما تبعه إلى عصر كانت فيه كلمة الله هي العليا وسيرة الرسول صلّ الله عليه وسلم وتعاليمه هي الأسوة ، وكان الخبر فيه غالباً ، ومنار الدين عالياً.ولكن شجرة الاسلام لم تزل تثمر ، وخليته لم تزل تعسل ، وسنحكي حكاية من الحكايات التاريخية بروائعها الإيمانية والخلقية ، يرجع عهدها إلى القرن الثالث عشر الهجري ، حين قام الإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد 1201 هـ – 1246هـ ، بتربية جماعة في الهند ، البعيدة عن مركز الإسلام ، الممتحنة بمحن دينية عقائدية خلقية ، وحكومات ضعيفة منحرفة ، على أساس التقوى والعقيدة الصحيحة ، وإتباع السنة والشوق إلى الجهاد والشهادة ، والدعوة إلى الله .واجتهد وجاهد لإنشاء حكومة إسلامية على منهج الخلافة الراشدة ، لتطبيق أحكام الشريعة على النفس والأهل والحياة العامة والمجتمع ، ونلتقط من هذا التاريخ المليء بعجائب الانقلاب النفسي ، والتطور الإسلامي تلك الحكاية .بداية الحكاية:
تخاصم خادم يقال له لاهوري ، وهو رجل متواضع المظهر ، يخدم خيل المجاهدين ويعلفها مع رجل اسمه عنايت الله ، له هيئة ومكانة عند السيد الإمام ، وهو من رفقته السابقين ، وأخذت الرجل حِدّةُ ، فوكز لاهوري وكزة وقع منها على الأرض ، وصار يتقلب من الألم .اتصل الخبر بالسيد الإمام ، واطلع على القضية فعنّف عنايت الله خان ، وعذله عذلاً شديداً ، وقال لعلك اجترأت على هذا لدلتك ومكانتك مني ، وحقارةِ الرجل وضَعَتِهِ ، فلا يغرنّك هذا ، فأنت ولاهوري سواء عندي ، لا فضل لأحد عن الآخر ، وقد جاء الناس جميعاً واجتمعوا هنا للدين فقط .احالة الأمر للقاضي :
وأحال أمرهما على قاضي العسكر ، وقال له : لا يأخذنك فيهما جَنَفٌ أو مُداهَنَةُ ، واحكم بينهما بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيماً ، كان الأمر جلياً واضحاً ، فكان للاهوري أن يقتص من عنايت الله ، ويكزه كما وكزه ، فإن الجروح قصاص ، ولكن خاف الناس الشّر وتخوّفوا أن تكون للقصاص عاقبة لا تحمد ، وعسى أن تأخذ عنايت الله الحدّة فيثور عليه ويبطش به ثانية ، ويحدث فتنة ، الناس في غني عنها .الخوف من القصاص :
اجتهد الناس في أن يتنازل لاهوري عن حقه ، ويسامح غريمه حسبة لله تعالى ، وتفاديًا من الشر ، وأراد القاضي أن يقنعه ، واجتهد الناس أن يفهموه ، فقالوا له : إذا عفوت عن صاحبك ، وتنازلت عن حقك ، كان لك عند الله أجراً عظيماً ، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم : فمن عفا وأصلَحَ فأجرُهُ على الله ، ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنّ ذلك من عزمِ الأمور ، أما لو أخذت حقك ، كنت وصاحبك سواء ً ، ولم تستحق الأجر والشكر.رد فعل لاهوري للسعي للصلح :
قال لاهوري في بساطة : ولو أخذت بحقي ، واقتصصت من صاحبي أكان علىّ وزر؟ ، قالوا : لا ، بل والله يقول : ولَمَنِ انتَصَرَ بعدَ ظُلمِهِ فأولئك ما عليهم سبيلٍ ، قال لاهوري : إذن آخذ حقي ، وأقتص من صاحبي ، هنالك يئس الناس ، وقطعوا الرجاء ، وأوقف القاضي عنايت الله خان ، أمام لاهوري ، ثم قال للاهوري : دونَكَ الرجلُ فاضرِبهُ كما ضربَكَ واقتصّ منه ، فقال لاهوري : أمن حقي أن أضربه كما ضربني وأقتص منه ؟ ، فأجابه القاضي : نعم فاضطرب الناس وقد أدركوا أن لاهوري ضاربه ومقتص منه.قرار لاهوري :
فقال لاهوري : اشهدوا أيها الناس ، أن القاضي قد أعطاني حقي ، ومكنني من غريمي وقد قضى ما عليه ، وها أنا ذا متمكن من خصمي ، لا يمنعنى من القصاص أحد ، ولا يحول بيني وبينه شيء ، ولا أخاف أحدًا ، ولكن اشهدوا أيها الإخوان ، أني عفوت عن أخي ، وتركت حقي حسبة لله تعالى وابتغاء رضوانه .العفو والصفح :
وتقدم لاهوري من عنايت الله خان ، وضمه إلى صدره وصافحه ، فهتف الناس : مرحى ..مرحى .. حياك الله يا لاهوري وبياك ، فقد عملت عمل الرجال ، وصنعت صنع الأبطال ، وهكذا عمل لاهوري ، بقول الله تعالى : والذين إذا أصابهم البغيُ هم ينتصرون وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثُلها ، فمن عفا وأصلَحَ فأجرُهُ على الله إنه لا يحبّ الظالمينَ .