قصة امرأة من غيم

منذ #قصص اجتماعية

دقت الساعة الثالثة بعد الظهر ، أنه الوقت المثالي التي تفضله بعض النساء الوحيدات للتأمل ، هذا ما فكرت به وهي تجلس فى زاوية فى إحدى الحدائق العامه متخذة أحدى الطاولات مستقرًا لها .وكانت رائحة الخريف وألوانه تحركان في نفسها الشجن ، فسوف تبلغ الثانية والخمسين بعد أسبوع ، وسيبلغ زوجها العمر ذاته بعد ستة أسابيع ، تحس أن الخريف محور حياتها ، فقد تزوجت بمن تحب في فصل الخريف ، وفرت معه وهما بالحادية والعشرين من عمرهما ، رغم معارضة الأهل ، وتذكرت وهي تتأمل الاوراق الصفراء الذابلة ، السنين الأولى من زواجها .كيف عاشت في قبو حقير لا يدخله شعاع الشمس ، وكانا ينامان على فرشة على الأرض ، ويعلقان ملابساهما القليلة على تعليقة خشبية مهترئة ، وبالرغم من ذلك فقد كانت السعادة التي عرفتها في تلك السنوات كثيفة وسخيه ، ولم تعرف سعادة تشبهها على مدار زيجتها حتى بعد أن رزقت بولديها .أتى النادل إليها ، وأحست أن في نظرته رقة وتعاطف وكأنه يعلم أن كرامتها جريحة ، ابتسمت له فقد كان في عمر ابنها ، وطلبت منه فنجان من القهوة ، لاحظت أن معظم الطاولات فارغة ، أرجعت جسدها البدين إلى الخلف قليلًا ، فكم كانت تزعجها بدانة جسدها تلك ، ولكن ما كان باليد حيله .عاد النادل إليها مرة أخرى حاملًا طلبها ، فشكرته فرد عليها بابتسامة حقيقيه ، كان للقهوة مذاق ردئ ، لكنها لم تمتنع عن رشفها ببطء ، أحست أنها تتذوق طعم أيامها ، وشردت قليلًا وكأنها تبحث عن حل لغز ، ثم طفحت عيناها بالدمع الحار ، رغم هدوء وجهها الذي لم تتغير منه ملامح الاحتقار لمجرد التفكير بزوجها .في تلك الأثناء مرت بجوارها شابة تحمل طفلا صغيرا ، تبعتها بنظراتها الشاردة حتى اختفت ، ولكن بمجرد مرور تلك الشابه ، اندفع بذهنها تساؤل مهم ما الذى يبقي للمرأة بعد الخمسين من عمرها ، ورغم بساطة السؤال إلى أنها اندهشت من صعوبة اجابته ، ولكن وجدت الإجابة في استرجاع شريط حياتها عسي أن منطق تسلسل أمور حياتها يقودها إلى نتيجه .وبنظرة حزينة تابعت حركة الغيوم وابتسمت فقد كانت هذه الصفة الوحيدة التي لم تتغير بها منذ طفولتها ، كانت مولعة بمتابعة الغيوم وأشكالها ، فقد أحست أن تلك الغيوم الآن مثل موكب من  النساء الكئيبات الخمسينيات .ثم عادت لتتذكر حياتها ، فابنتها متزوجة ومنشغلة بتربية أبنائها ، وولدها سافر إلى احدى الدول للعمل ، وصديقاتها تقمصن سريعًا دور الجدات قانعات بالقالب التي يتوجبن عليهن الدخول ضمنه ، لا أحد غيرها يطرح التساؤلات .ثم مرشريط حياتها أمام عينها فى شكل باهت متذكرة كم أنها برعت فى عملها الوظيفي ، وكم كانت زوجة مثالية وأم  ممتازة ، لم تكن تشكو أو تتزمر من أعبائها ، بداخلها طاقة من العطاء .ثم بعد أن بلغت سن الراحة ، وتقلصت مسؤوليتها وحققت مع زوجها مستوى معيشي مرفها ، أحست أنها تنتظر مكافأة عظيمه من الحياة ، لكن للأسف فالحياة طعنتها في صميم كرامتها ، فرفيق دربها تنكر لها ، وظل يتنقل من عشيقة لأخرى .في بداية الأمر كان يراعى شعورها فينكر علاقاته ، ولكن مع الوقت صار يحدق بها بنظرات تعنى أنها مضطرة أن تقبله كما هو أو أن تكون حرة باختيار حياتها ، فجأة تنبهت إلى حقيقة كانت غامضة طوال حياتها .إذ أن أهم حقيقة في حياتها هي الخوف ، الخوف من الناس ومهابة العادات والتقاليد ، فكرامتها الجريحة بعد خيانة زوجها لها تدفعها للطلاق ، ولكن نصائح المقربين والمنطق النفعى العقلي لا يدفعانها للطلاق .فمعظم الإمبراطورية الماليه التي حققا اياها مسجلة باسمه ، فلم يخطر في بالها يومًا أن تحذر من الرجل التي أعطته روحها وجسدها وأجمل سنوات عمرها ، واعتقدت أنها كانت تقرأ أفكاره حتى لو كان كل منهما في غرفه منفصلة عن الآخر.لقد صار إنسان غريبًا بعد أن وصل إلى منتصف العمر ، تسآلت ماذا لو ظل فقيرًا ، هل تجرأ وعشق شابات في عمر ابنته ، فقد أجرى عملية تجميل في أنفه عندما بلغ الثامنة والأربعين ، وصار مهوسًا بالتمارين الرياضية وربطات العنق ، والأحذية الفخمة والعطور .في بداية اكتشافها لخياناته لم تكن تعلم في البداية كيف تجمح انفعالاتها ، كانت تتكلم مع الجميع عن خياناته وتعيد التفاصيل ذاتها ، لكن مع كثرة الكلام لم تتوصل إلى حل مفيد ، كانت تشعر بظلم شديد فقد هجرها عند ظهور أول تجاعيد تعلن توديع شبابها .دون أن يشعر بذرة تأنيب ضمير ، كادت تصرخ في وجه الناس متسائلة : لماذا العمر في مصلحة الرجل دوما ؟ ما الفرق بين رجل في الخمسين وامرأة في الخمسين كلاهما يهرم ويذبل .لماذا لا يستهجن سلوك رجل في الخمسين ، يرفع شعار المتعة واستعادة الشباب الزائل ، بإقامة علاقات مع شابات صغيرات ، بل أنه يكشف عن رغباته بوقاحة كأنه يصرخ فى وجه الناس أن كل شيء مباح .شردت مرة أخرى وهي تتذكر كم كانت قاسية عليها نصائح بعض صديقاتها المقربين ، أن تلتفت لولديها فقط ، فهم الباقين لها ، وتتغاضى النظر عن سلوك زوجها المشين ، بل وتسامحه على تلك التصرفات لكي تستمر الحياة ، حتى أنه في ذات مرة نصحتها إحدى صديقاتها بخفض وزنها حتى تصبح جميلة مرة أخرى فى عين زوجها ، أو أن تتخذ عشيق شاب هي الأخرى ، فهذا حقها من وجهة نظر صديقتها .ابتسمت عندما تذكرت نصيحة صديقتها وتساءلت مرة أخرى ما الصواب في كل تلك الآراء التي سمعتها ، هل تقاوم في مثل هذا السن صوت العقل أم صوت العاطفة ، ولكن كان كل ما يؤلمها ليست خيانته ، إنما تجاهله لها ، فهو يعود للمنزل ويتناولا العشاء سويًا ، ويشاهدا بعض البرامج التلفزيونيه ، لكنها تشعر أنها غير موجودة في حياته .تذكرت ذلك الزمن البعيد حيث كان يحتاج إليها كحاجته للهواء ، كم تخيلت أنه حين بلوغهما منتصف العمر ، سوف يتذكران سويًا مشوار كفاحهما وهو متأبط كتفها ، وسيكون أمامهما سنوات طويلة للرفاهية والدفء الوقور لزوجين فى منتصف العمر .رفعت نظرها إلى السماء ، فحدقت في الغيوم الكثيفة ، وهي مبتسمة ومتخيله نفسها تشبه تلك الغيمة الوحيدة المنزوية في جانب السماء ، فقد تخيلتها تشبه امرأة من غيم ستبتسم ابتسامة عالية .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك