في فصل الخريف أخذت تتناثر أوراق شجرة التين العملاقة ، القابعة منذ سنين طويلة في باحة الدار ، وكان صاحب البيت يجلس على كرسي هزاز ، وعينيه تراقبان أوراق الشجرة المتناثرة ، وأخذ يتذكر كلام زوجته وهي تلح عليه كل خريف أن يقطع هذه الشجرة ، لأنها لم تعد لديها القدرة على تنظيف الساحة ، من حبات التين المتساقطة صيفًا ، وفي الخريف عند تساقط الأوراق والرياح تنقلها من زاوية إلى أخرى .عاد إلى الماضي بذاكرته الى أيام طفولته ، حين كانت والدته تجمع حبات التين ، لتجفيفها على سطح البيت ، وكانت تخاف عليه أن يقع وهو يبحث عن حبات التين المختبئة بين الأغصان العالية ، وكانت تظل واقفة بقلق شديد حتى ينزل .جاءت زوجته قاطعة لذكرياته قائلة بصوت عالي : إلى متى ستبقى شجرة التين مسببة لنا المشاكل ، ومرهقة فأنا لم أعد شابة يا أبا خالد ، هز رأسه وأجابها : اليوم سترتاحين منها فلكل شيء نهاية ، ولكل المخلوقات خريف .نزل إلى باحة الدار وأمسك بيده منشار كهربائي ، تأمل شجرة التين لبرهة ، ثم أمسك غصن وكسره قبل أن يضع المنشار الكهربائي ، وإذ باللبن المسكوب من غصن الشجرة ينزل منها مثل الدموع ، وقد اختلطت بدموعه التى سالت على خديه دون أن يدرى ، واستمر فى عملية القطع حتى لا يحن لشجرة التين ، ويتراجع عن قراراه ويعود لمشاكل بينه وبين زوجته مرة أخرى.عاد إلى زوجته ، وقال لها أصبحت شجرة التين أرضًا الآن ، نظرت اليه أم خالد فرحة شاكرة اياه على اراحتها ، مرت عجوز بجوار الدار ولما رأت ما فعله بشجرة التين ، صرخت غاضبة ماذا فعلتم بشجرة التين ، كيف تتجرؤون على قطع خير هذا البيت ، هذه الشجرة غرسها أحد الصالحين من أجدادكم ، وكانت وصيته أن تحظى بالعناية ، وأن يتصدق أهل البيت من ثمرها ، اللهم كف الشر عن هذا البيت وامنع غصبك عن أهله .تمتمت بهذه الكلمات ، وأكملت طريقها وظل صدى كلماتها يتردد في أنحاء البيت حتى شعر أبا خالد بقشعريرة لم يشعر بمثلها من قبل ، لم يعد يطيق النظر الى تلك الفروع وتلك الشجرة الملقاة أرضًا ، فدخل البيت وأفكاره مشتته ومزدحمة في رأسه الى حد أتعبه ، وأجلسه على كرسيه .ولم يعد يقدر على النظر من خلال الشرفة كالمعتاد ، فنظر الى صورة جده المعلقة على الحائط ، وأخذته أفكاره إلى الماضي ، وهو يتذكر جده حينما كان يجلس على كرسيه في باحة منزله ، وأبناء الحي مجتمعين بجوار شجرة التين ، وسلة التين الممتلئة تدور على جميع الحاضرين ، ترى هل يديك غرست التين يا جدي وجئت أنا لأقطعه .وفجأة شعر أن عيني جده في الصورة المعلقة حزينة وغاضبة جدا ، فأحس بجفاف في ريقه ، فتناول كوب ماء ولكن العطش ظل مسيطر عليه ، أفاق من ازدحام أفكاره على صوت حفيده وهو يقول له معاتبًا : لماذا قطعت شجرة التين يا جدي ، لقد سمعت أنها شجرة مباركة ، وقد أبلغنى صديقي بأنك قطعتها فجئت الى هنا لأتأكد ، لماذا يا جدى قطعتها ؟ أحس الجد بضيق فى صدره ، ولم يستطع الرد إلا بعد قليل ، وقال للحفيد مهدئا اياه سيكون خيرًا يا بني ، أحس الجد بخوف ينتابه ودعا ربه أن يلطف بأهل بيته .مر أسبوع دون أن يحدث شيء يقلق ، فدعا أبا خالد أبناؤه وأحفاده الى وليمة على روح جده ، واقترحت أم خالد أن يجلسا في باحة البيت احتفالًا ، بنظافة البيت التي قامت بها من النمل والنحل والأوراق المتطايرة ، وليستمتعوا بنسمة الرياح الخريفية الباردة .وصل الأولاد والأحفاد وبدو كأنهم خلية نحل في نشاطهم وتحضيرهم للوليمة ، ثم جلس الجميع على الطعام ، وقبل أن يبدؤوا بالبسملة ، سأل أبا خالد عن تغيب ابنه الأصغر أمين ، فقالت له زوجه أنه سيتأخر بسبب مسافر اتصل به ليقله إلى إحدى المدن البعيدة ، فلا تنتظروه سيأتي لاحقًا ويأكل .تناول الجميع الطعام ، وانتهت الوليمة وأصغر الأبناء لم يأتي بعد ، فيما أخذ قلب خالد يخفق قلقا ، لشيء لا يدريه ، وإذ بزوجة ابنه أمين تصرخ وتقول أن أمين قد تعرض لحادث سير ونقل إلى المستشفي .ظل أبا خالد متجهما لوهلة ، وقد هرع الجميع الى المستشفي ، ونظر الى شجرة التين وقد تذكر أنه لم يقتلع جذرها من الأرض ، فهرع إلى الماء وسقاها ، وهو يقول لها لابد أن تثمرين مرة أخرى ، لابد أن تثمرين .. لكي تعود البركة إلى هذا المنزل .