توقفت عن الذهاب لرؤيته منذ عشر سنوات ، وربما لأنه جعلني أضع اصبعي في جرح موجع ، فهربت ..المحلل النفسي :
النظرة إليه في عالمنا العربي ، نظرة سلبية تنقسم إلى أمرين : أنت مجنون لذا تطرق بابه أو أنت مصاب بداء الترف ، فاجأتني نارنجتي ، وهي في الأصل نارنجته ، أي نارنجة ذاك الذي أطلق عليها التسمية ، وما الياء المضافة لاسمها سوى درب من دروب أنانيتي ، وأنا اشاهدها ، على احدى القنوات الفضائية مع مذيع يفترض أنه مثقف حاورها حول تجربتها الحياتية والمهنية الثرية ، فاجأتني في عدة أمور ، أتوقف عند أحدها : جرأتها النادرة .جرأة :
تحدثت علنا عن ترددها على عيادة المحلل النفسي سنوات طويلة ، أتت مقاربتها للأمر بمنتهى السهولة على الرغم من أنها تعرف أن استيعاب الناس لهذا الأمر يبقى ملتبسا حتى الساعة .كلما طرح مقدم البرنامج سؤالاً يقول : الطبيب النفسي فصحح خطأه وتقول : المحلل النفسي ، حاول تفادي تكرار الغلط بصعوبة ، وهذا يظهر الخلل في إدراكنا لمعنى التجربتين ، لذا نخلط بينهما ، كثيرًا ما أصحح للآخرين الخطأ نفسه ، وأحزن بيني وبين نفسي ، لوقوع محدثي فيه .الطبيب النفسي والمحلل النفسي :
الفارق بحسب معلوماتي المتواضعة ، بين الطبيب النفسي والمحلل النفسي ، يشبه الفرق بين الأزمة النفسية ، وكل البشر لهم أزماتهم ، والمرض النفسي ، كالفرق بين الذهان ، الذي يفقد المريض الاتصال بالواقع ، كانفصام الشخصية مثلاً وبين العصاب الذي يتمثل ، غالبًا في عدم التكيف مع المحيط والواقع من دون فقدان الصلة به ، كالاكتئاب مثلًا .دراسة الطبيب النفسي :
يدرس الطبيب النفسي الطب البشري أولًا ، ثم يتخصص في الأمراض النفسية ، ويتخصص كذلك في التحليل النفسي ، إذا أراد ويمكنه بالطبع وصف الأدوية والعلاج .دراسة المحلل النفسي :
أما المحلل النفسي ، فليس خريجًا في كلية الطب بالضرورة ، بل يتخرج في كلية علم النفس ، لا ينبغي له وصف الأدوية كما أنه لا يؤمن بالدواء كعلاج للأزمة النفسية ، بل بالكلام وهدفه مساعدة عميله ، في فهم سلوكه اللاواعي أو عقله الباطن ، ويحاول فك رموز حالاته وانفعالاته النفسية معه بهدف العلاج ، أو اصلاحًا للخلل الحاصل .فرويد والتحليل النفسي :
أحب اللقب لذي يطلقونه على فرويد كثيراً ، كما أحبه شخصيا ، وأشكر ربي أن أوجده مرة في هذه الحياة ، أبو التحليل النفسي .. هكذا يسمونه .. أعرف ، أعرف .. نظرية التحليل الرسمي جاءت قبله بكثير ، في الدين والفلسفة وتفسير الأحلام ، لكنه يبقى أبا لأنه ابتكر ، التحليل النفسي الذاتي .جلسات العلاج النفسي :
ترددت بانتظام لمدة خمس سنوات على عيادته ، ليس على عيادة فرويد طبعًا ومع الأسف ، وهي أعوام قليلة مقارنة بالذين أتموا تحليلهم ، واستغرقوا في ذلك أكثر من عشر سنوات ، ماذا يحدث هناك ؟أتمدد أتكلم وأتألم .. أبكي أحيانًا .. وتمضي الجلسة بصمت في أحيان أخرى ، وهو قليل الكلام عادة ، هو مرآتي ورجع صدى صوتي ، يستوقفني عندما أقول أشياء لا أعي أهميتها ، يساعدني على إضاءة الظلمات المتراكمة على نفسي ، ويستفيض عندما يرفض وعيي القبول بحقيقة بعض الأشياء .التحليل النفسي وعالمنا العربي :
أعترف بفضله دائمًا ، لكن الأمر برمته حدث بفضلي ، أولًا : لأنني وافقت على الذهاب إليه للمرة الأولى بتشجيع عنيف من نارنجتي ، وثانيًا : لأني واظبت على العمل معه فتغيرت حياتي وسلوكياتي ، وفككت أزماتي ونلت علامة مدهشة .كتمت مواظبتي على زيارته فيما مضى ، تلافيا لنظرات الآخرين المتوجسة ولدرء تهمة الجنون عن نفسي ، غير أن أتمنى اليوم لو شهد العالم العربي انفتاحا أسرع على التحليل النفسي وأهميته لحياة الفرد ، وأن يعرف محللين نفسيين ممتازين وهذا أمر صعب ، أتمنى لو سنحت الفرصة لكل انسان أحبه أن يدخل هذه التجربة ، وألا يقتصر الأمر على الطبقات الاجتماعية القادرة دون غيرها .في عيادة المحلل النفسي :
المتردد على عيادة المحلل النفسي ليس مريضًا ، إنه مأزوم فقط ، ستتاح له الفرصة إن رغب ، في معرفة نفسه أكثر ، والتعامل مع أزماته ومع البشر من حوله بمفهوم مختلف ، الآن صرت أضحك في سري كثيرًا كلما سمعت أحدًا يقول لي بثقة : أعرف نفسي جيداً ، نعرف القشور عن أنفسنا ، ودون هذا الخوض العميق والمؤلم ، يبقى الانسان أشد أعداء نفسه ضراوة لأنه يجهلها حتما .لذلك طرقت بابه :
طرقت بابه منذ يومين مجدداً ، سلم عليّ بحرارة لم أعهدها من قبل ، وقال بأنني لم أتغير ففرحت ! لخصت له السنوات العشر التي مرّت ، في ساعة من الوقت .. فكرر قوله بأني لم أتغير .. حزنت .. لأني أعرف أن الدرب سيكون طويلًا ..ادخل في نفسك ، في أعماقك ، وتعلم أولاً معرفة نفسك ، لتفهم لماذا يتعين عليك أن تصبح مريضاً ، وربما ستتجنب ذلك .. سيجموند فرويد ..