استيقظت فلورانس على الضجة القادمة من حديقة المنزل ، خيل إليها أنها سمعت صوت إنسان يصرخ ، ثم صوت صفارة ضعيفة ، كانت غرفتها هي أقرب الغرفات إلى الحديقة ، نهضت من فراشها وأمسكت المصباح في يدها ثم سارت إلى الحديقة ..السرقة :
كان الظلام كثيفاً والليلة هي احدى ليالي الشتاء التي يخيم فيها الضباب على لندن ، ولكن فلورانس سمعت صوت شخص وهو يتأوه .. أدارت مصبحها إلى مصدر الصوت فوجدت أحد رجال الشرطة ملقى على الأرض ، كان يتألم وهو يمسك ساقه ، وأسرعت فلورانس وهي تهتف : ماذا بك يا سيدي ؟نظر الشرطي إليها ثم قال وهو يتأوه : أوه يا آنستي الصغيرة .. لقد حاول اللصوص أن يسرقوا منزلكم لكنني كشفت أمرهم فأصابوني في ساقي ولاذوا بالفرار .. وضاعت مني الصفارة ..اسعافات أولية وثقة في النفس :
قال فلورانس : سوف أعتني بك في الحال ، ولكن أولا عليّ أن أنقذ أخي وبقية الخدم ، وأسرعت إلى المنزل ، أيقظت الجميع ، وهبط أبوها معها مهرولًا إلى الحديقة ، واستطاعوا أن ينقلوا الشرطي المصاب إلى داخل المنزل وأجلسوه فوق أحد الأرائك ، كان الدم ينزف من ساق الشرطي .هتف الأب : سوف أذهب لاستدعاء الطبيب ..ولبس قبعته واتجه إلى الباب في حين قالت فلورانس : سوف أحاول أن أقدم له بعض الاسعافات الأولية حتى يتوقف النزيف ، وأسرعت تحضر القماش وبعض المطهرات ، ولاحظت الأم في دهشة كيف تتصرف فلورانس بثقة كانت تقوم بتنظيف الجرح ثم تطوي قطعة القماش لتجعل منها ضمادة مناسبة ثم تلفها بطريقة معينة .. فقالت الأم في دهشة : فلورانس أين تعلمت تلك الأشياء ؟قالت فلورانس وهي تواصل عملها : في المدرسة يا أمي ، إنهم يعطونا دروس في الاسعافات الأولية ، وراقبها الشرطي وبدأ يسترد قواه بعد أن توقف الدم ورفع قبعته وهو يقول لها : شكراً يا آنستي .. ستكونين ممرضة رائعة ..ممرضة بارعة :
ابتسمت فلورانس ولكن الأم قابلت هذه المجاملة بامتعاض ، ممرضة !! يا لها من مهنة صغيرة لا تليق إلا ببنات الأسر الحقيرة .. ألا يعرف هذا الشرطي أن فلورانس من أسرة عريقة لا يمكن لها أن تعمل في هذه المهنة ..ودخل الأب من باب البيت وهو يقول : لم أجد الدكتور جريدلي في منزله ، أخبرني الخادم أنه سافر خارج لندن لعدة أيام ، واعتدل الشرطي في جلسته وحاول أن يضع قدميه على الأرض وهو يقول : لا أهمية لذلك يا سيدي ، لقد قامت الآنسة بعمل الطبيب ببراعة شديدة ..ولكن الأب لاحظ بعض علامات الألم على وجه الشرطي وسأله : ألا تريد أن تذهب إلى أحد المستشفيات ؟.. ولكن الشرطي قال في رعب : أوه ..كلا .. كلا يا سيدي ، إن المستشفيات العامة رهيبة ويمكن أن أموت فيها من قلة العناية ، إنني أفضل هكذا .. سوف أذهب إلى قسم الشرطة لأبلغهم بأوصاف اللصوص حتى يتم القبض عليهم ، شكرا لك يا سيدي ، شكرًا لك يا آنستي..حلم التمريض :
وانصرف الشرطي وعادت فلورانس إلى غرفتها ، لم تستطيع النوم ، كانت تفكر في الشرطي الجريح وكيف أصابه الفزع عندما ذكر أباها كلمة المستشفى ، كانت فلورانس قد أدركت فجأة أهمية تلك المهنة ، التي امتعضت أمها عندما ذكرها الشرطي ، ممرضة أجل ممرضة ، تخفف آلام الناس ، وتنقذ حياة المرضى وتساعد الأطباء على أداء عملهم ، لقد كان الشرطي متألماً ، ينزف ، ولكنه استرد عافيته بعد أن قدمت له بعض الاسعافات الأولية التي تعلمتها في المدرسة ، ونامت فلورانس وهي تحلم بالمهنة مهنة التمريض ..بعد مرور عدة أيام :
وبعد مرور أيام من ذلك الحادث ، عاد الطبيب جريدلي من سفره ، كان صديقاً لأبي فلورانس ، وكانت هي تحب أن تجلس لديه كثيراً لتستمع إليه ، لقد كان الطبيب الأمريكي الأصل يعيش في لندن ويملك العديد من القصص الشيقة عن بلاده البعيدة الأمريكية .ولكنها هذه المرة كانت هي التي تتكلم عن الحادثة وعن الشرطي المصاب وفجأة سألته : ولكن يا دكتور لماذا أصاب الشرطي الفزع ، عندما ذكرنا له المستشفى ؟ قال الطبيب : لأن المستشفيات في حالة سيئة ومزدحمة بالمرضى إلى حد كبير ، وفوجئت الأسرة كلها بسؤال فلورانس وهي تقول : هل يمكنني أن أزور المستشفى ؟اعتراض وموافقة :
اعترضت الأم في تأفف قائلة : أوه ي عزيزتي ، هذه الأماكن لا تزورها فتاة من الطبقة الراقية ، ولكن فلورانس قالت لها في اصرار : يجب أن أزور المستشفى يا أمي .. يجب أن أعرف حالتها الطبيعية .. إنني مهتمة بهذا الموضوع ، وأمام اصرارها لم يستطع الجميع إلا الموافقة .المستشفى :
كانت المستشفى التي ذهبت إليها بشعة بالفعل ، طرقاتها قذرة ، مليئة بالقاذورات وفضلات الأطعمة ، والمرضى ينامون على أسرة متسخة ، ويعانون من سوء الخدمة ومن قلة الطعام والأدوية ، كان هناك الكثير من المرضى ، والقليل من الأطباء والممرضات ، وكانت المستشفى كلها في حالة يرثى لها .وقال لها إنها مأساة ياعزيزتي ، فنحن لا نجد ممرضات متدربات يساعدن في القيام بالعمل ، كل الفتيات يهربن من هذه المهنة ، والمستشفيات في تدهور مستمر ، ولسنا ندري ماذا نفعل لكي نخفف آلام هؤلاء المرضى ؟لم تذهب فلورانس لهذه المستشفى وحدها ، بل ذهبت لزيارة العديد من المستشفيات ، وملاجئ اليتامى وبيوت الفقراء ومنازل العجزة ، وأدركت فلورانس أن كل هذه الأماكن في حاجة لمن تضحي بنفسها وبحياتها من أجل خدمة الآخرين ، وعادت إلى بيتها وقد اتخذت قرار ، وقالت لأمها : أماه .. أريد أن أكون ممرضة !..أول ممرضة مثقفة :
هتفت الأم في جزع : كلام فارغ ..أنت فتاة من طبقة راقية ، كل ما عليك هو تعلم العزف على البيانو ، والرقص والتطريز .. ولكن فلورانس كانت مصممة ألا تبقى إنسانة خاملة ، كل مميزاتها أنها ثرية ، وبرغم الاعتراضات كانت مصرة على أن تشق طريقها في ميدان التمريض .وخذت تقرأ بعناية كل ما يقع تحت يدها من كتب طبية ، وتبحث عن الطرق التي تستطيع بها تحسين مستوى المهنة ، وسافرت إلى ألمانيا وتعلمت التمريض في أحد المعاهد المتخصصة ، وأصبحت بذلك أول ممرضة مثقفة ومن طبقة راقية ، تحاول أن تعيد البسمة إلى شفاه المرضى ..سخرية ثم احترام ثم حرب :
لقد سخر الجميع منها ومن مهنتها ، ولكن أمام اصرارها بدأت تنجح ، وبدأ الفتيات من بنات الطبقات الراقية الانضمام اليها ومساعدتها ، وحين نشبت حرب القرم بين روسيا وانجلترا وفرنسا ، سمعت فلورانس عن سوء أحوال جرحى الحرب ، وكيف يموتون بسبب نقص لرعاية الطبية .لقب حاملة المصباح :
أخذت فلورانس معها 35 ممرضة من الفتيات المتدربات جيداً وسافرت إلى ميدان القتال ، وهناك بدأت تقوم بدورها الانساني العظيم ، كانت تسهر طوال الليل ، حاملة المصباح وتسير بين خيام الجرحى ، وتقدم المساعدة والعناية لكل الذين يحتاجون إليها ، وقد أحبها الجنود وأطلقوا عليها اسم ، حاملة المصباح .. وقد اشتهرت بهذا اللقب ، وظلت تكافح من أجل المزيد من الأدوية الضرورية والآلات الجراحية .انشاء أول معهد للتمريض :
وعندما عادت نالت أعلى الأوسمة والشهادات التقديرية ، وأنشأت بمجهودها الخاص أول معهد لتدريب الممرضات على أحدث الطرق ومازالت آثار فلورانس نايتنجل ، باقية حتى اليوم مع كل لمسة تقدمها ممرضة إلى مريض .. لقد حملت فلورانس مصباح الرحمة الانسانية وساهمت في تخفيف آلام المرضى وأعادت البسمة إلى شفاههم .