أدرك عمرو بن العاص فور وصوله إلى الإسكندرية ، ودراسته للوضع الميداني أن المدينة حصينة ، إذ يحيط بها سوران محكمان ، ولها عدة أبراج ويحيط بها خندق يملأ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع ، وتتألف أبواباها من ثلاث طبقات من الحديد ، ويوجد مجانيق فوق الأبراج ، ومكاحل وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي .
ويحميها البحر من الناحية الشمالية ، وهو تحت سيطرة الأسطول البيزنطي الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد ، وتحميها قريوط من الجنوب ومن المتعذر اجتيازها ، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب ، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق ، وهو الطريق الذي يصلها بكريون .
خطة عسكرية لضمان النصر : وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية ، ومع ذلك لم ييأس ، ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية ، قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها ، ويدب اليأس في نفوسهم فيضطروا للخروج للاصطدام بالمسلمين ، لتخفيف وطأة الحصار ، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم ثم ينقض عليهم ، لذلك نقل معسكره إلى مكان بعيد عن مرمى المجانيق بين الحلوة وقصر فارس .
قوة استطلاع بيزنطية : إستمر الوضع على ذلك مدة شهرين لم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال ، سوى مرة واحدة حيث خرجوا قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة ، واشتبكت مع قوة إسلامية ثم ارتدت إلى الحصن ، ولعلها كانت بمثابة قوة استطلاع أو جس نبض .
خطة لرفع معنويات جيش المسلمين : ورأى عمرو بن العاص أن يقوم بعمل عسكري يشغل به جنوده ، إذ أن الانتظار قد يؤثر على معنوياتهم القتالية ، ويدفعهم إلى الخمول ، فشغلهم بالغارات على الدلتا ، وأبقى معظم جنوده على حصار الإسكندرية .
صراع القسطنطينية : ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم ، انقطعت الإمدادات البيزنطية على الإسكندرية ، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها ، مما أثر سلبًا على معنويات المدافعين عنها ، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سندًا لهم مما زاد من مخاوفهم ، ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل ، فإذا سيطروا عليها فسوف يقطعون المياه عنهم .
قلق عمر بن الخطاب على جيش المسلمين : كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء مصر ، وهو أشد ما يكون استعجالا لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين ، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فراح يبحث عن السبب وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بن العاص بما يحتاج إليه من المساندة ، التي تكفل له النصر ، وخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت المسلمين فتخاذلوا ، وقال لأصحابه ما أبطؤوا بفتحها إلا لما أحدثوا .
خطاب عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص : ثم كتب إلى عمرو بن العاص ، يقول له : أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر ، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ، وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ، ما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر ، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيرهم .
فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس ، وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر ، والنية وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس ، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد ، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة ، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر .
فتح الإسكندرية : شكل كتاب عمر عامل دفع للمسلمين ، فاقتحموا حصون الإسكندرية ففتحوها بحد السيف ، في يوم
28ذو القعدة سنة20 هـ
الموافق (8 نوفمبر سنة 641م) ، بعد حصار دام أربعة أشهر ونصف ، وفر البيزنطيون منها بكل اتجاه للنجاة بأنفسهم ، وأذعن سكانها من الأقباط ، واستبقى عمرو بن العاص أهلها ، ولم يقتل ولم يسب وجعلهم ذمة كأهل حصن بابليون .
تباين الروايات في الأثر عن فتح للإسكندرية : تتباين روايات المصادر حول كيفية فتح الإسكندرية ، أكان عنوة أو صلحًا ويذكر البلاذري أن المسلمين قاتلوا الحامية البيزنطية قتالًا شديدًا ، وحاصروهم مدة ثلاثة أشهر، ثم إن عمرو بن العاص فتحها بالسيف ، وغنم ما فيها واستبقى أهلها ولم يقتل ولم يسب وجعلهم ذمة كأهل بابليون .
رواية ابن إسحاق عن فتح الإسكندرية : ويخالف ابن إسحاق البلاذري في روايته حول فتح الإسكندرية ، فيذكر أنها فتحت صلحًا وليس عنوة ، على الرغم من كلا الطرفين الإسلامي والبيزنطي في مصر ، استعدا للقتال الذي أمكن تجنبه في اللحظة الأخيرة وتشير هذه الرواية إلى أن المسلمين فتحوا الكثير من القرى ، حتى وصلوا إلى الإسكندرية ، وكانت سباياهم من فتوح هذه القرى عظيمة جدًا ، وقد بلغت المدينة ومكة واليمن ، حتى إذا وصل إلى بلهيب راسله صاحب الإسكندرية .
وعض عليه الجزية مقابل رد السبايا ، فأرسل عمرو كتابًا إلى عمر يستشيره فجاءه الجواب بالموافقة على أن يخير السبايا بين البقاء على دينهم ، وعليهم الجزية وبين الدخول في الإسلام ، فترفع الجزية عنهم أما من تفرق في الجزيرة العربية ، فإنا لا نقدر على ردهم ، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به .
الرواية النصرانية لفتح الإسكندرية : وتشير الرواية النصرانية أن الإسكندرية فتحت صلحًا ، فيذكر حنا النقيوسي أن قرس المقوقس ، لم يكن وحده الذي رغب في السلام ، وإنما رغب فيه السكان والحكام ، ولذا اجتمعوا واتفقوا مع قيرس ، على إنها الحرب بعقد الصلح مع المسلمين ، وذهب قيرس إلى بابليون ، حيث كان عمرو بن العاص هناك بعد غاراته على الدلتا ، وعقد معه معاهده يصح أن نطلق عليها معاهدة بابليون الثانية ، تمييزًا لها عن المعاهدة الأولى ، أو أن نسميها معاهدة الإسكندرية ، لأنها كانت خاصة بأهل الإسكندرية وحاميتها .
الرواية الراجحة لفتح الإسكندرية : والراجح أن الإسكندرية فتحت عنوة ، غير أن عمرو بن العاص عامل أهلها كأهل ذمة ، لأسباب سياسية تتعلق بالمحافظة على مكتسبات الفتح من جهة ، والتفرغ لتنظيم إدارة البلاد من جهة أخرى ، بالإضافة إلى الانطلاق لتحقيق فتوح جديدة على ساحل شمالي إفريقيا .