قصه من روائع الأدب الفرنسي، للكاتب (هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون) ، ولد (موباسان) بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، في عام 1850م و توفي عام 1893م ، درس موباسان القانون ، والتحق بالجيش الفرنسي ، ثم عمل ككاتب في البحرية الفرنسية ، كان من أشهر الكتاب الفرنسيين ، ذو الأسلوب المتميز في كتابة القصص القصيرة والروايات ذات الطابع الواقعي ، وكان يكتب باللغة الفرنسية فقط ، ومن أشهر أعماله بيل أمي و كرة الشحم .
القصة :
البحر يلطم الشاطئ بموجته القصيرة ، والسحب البيضاء تمر مسرعة عبر السماء العريضة الزرقاء ، والقرية في تلة الوادي الصغير ، الذي ينحدر إلى البحر ، وفي مدخل التلة تماماً منزل آل مارتان ليفيك وحده على حافة الطريق ، إنه مسكن صياد صغير جدرانه من الطين ، وسقفه من غصون السوسن الأزرق ، وأمام الباب حديقة عرضها كعرض المنديل ، ينبت فيها شيء من البصل والملفوف ، والبقدونس العادي والبقدونس الإفرنجي ، ويسيجها سياج على طول الطريق .
كان صاحب البيت يدعى ليفيك ، وزوجته تدعى مارتان ، مما جعل الناس يسمون المنزل باسم آل مارتان ليفيك ، كان ليفيك يعمل في صيد سمك ، وزوجته مارتان تقوم بإصلاح شبكة كبيرة سمراء ممدودة على الجدار ، كأنها نسيج عنكبوتي هائل .
وعند مدخل الحديقة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها ، تجلس على كرسي من القش ، منحنية إلى الخلف ساندة ظهرها إلى الحاجز ، وفتاة أخرى أصغر منها تهدهد بين ذراعيها طفل صغير جداً ، وصبيان في الثانية أو الثالثة من عمرهما ، جلسا على الأرض يلعبان سوياً ، لا أحد يتكلم ، فقط الطفل الصغير الذي يتم تنويمه يبكي بكاءً متصلاً ، بصوت حاد .
الرجل الغريب : نادت البنية الجالسة على كرسي القش لأمها ، وقالت لها وهي قلقه : ماما ، ثمة رجل كبير في السن يحوم حول البيت منذ الصباح ، ويبدو عليه أنه فقير ، وقد شاهدتاه البنتان ، بينما كانتا تصطحبان الأب إلى مركبه لإبحاره ، شاهداه يجلس فوق الحفرة مقابل الباب ، وعندما عادا إلى المنزل وجداه هنا ينظر الى البيت ، وكان يبدو وكأنه مريض وبائس جداً ، لن يتحرك من مكانه لأكثر من ساعة .
ثم عندما رآهما تنظران إليه على اعتباره شريراً ، وقف وسار بعيداً وهو يجر ساقه ، ثم رأته الفتاتان يعود مرة أخرى بخطوته البطيئة ، بعد قليل ولكنه جلس أبعد قليلاً هذه المرة وكأنه يرصدهما .
قصة الأم : خافت الأم وارتبكت تماماً ، لأنها كانت متخوفة بطبعها ، بالإضافة الى أن زوجها ليفيك لن يعود من البحر إلى في ساعة متأخرة ، عند حلول الظلام ، وكانت للأم زيجة سابقة من بحار يدعي مارتان ، كان يذهب كل صيف إلى الأرض الجديدة لصيد سمك المورا ، وبعد سنتين من الزواج رزقت منه بطفلة صغيرة ، وكانت حامل في ستة أشهر ، عندما اختفت المركب ، ولم يعد أحد من البحارة الذين كانوا يستقلون المركب ، واعتبروه مفقوداً بكل من عليه وما عليه .
وانتظرت المرأة زوجها عشرة سنوات ، وربت ولديها بمشقة عظيمة ، ولما كانت امرأة شجاعة ومتقدمة في السن ، فطلبها صياد من القرية للزواج ، أرمل ولديه صبي ، فتزوجته وأنجبت منه ولدين ، وكانا يعيشان سوياً بالعناء والكد ، فالخبز هو الأساسي من الطعام ، أما اللحم يكاد يكون مجهولاً بالنسبة إليهم في المنزل ، وكان في وقت العواصف في الشتاء أحياناً ، يستدينون الخبز من الخباز .
رأي الناس : وكان الناس يقولون آل مارتان ، أناس طيبون ، والمرأة جلدة على التعب ، ولا مثيل لليفيك بصيد السمك ، ظلت الفتاة التي كانت تستند الى الحاجز ، ناظرة إلى الرجل الغريب ، وقالت : لعله يعرفنا أو أنه أحد فقراء ايفل ايبال أو أوسبوك .
ولكن المرأة لن تخطئه ، فهو لم يكن أحد أبناء المنطقة ، ولما كان جامداً لا يتحرك ، من مكانه ، بل فقط يحدق إلى منزل آل مارتان ليفيك ، تغلبت المرأة على خوفها ، وتحرك قلبها الشجاع ببسالة ، وخرجت لتسأل الرجل الجالس أمام المنزل ، قالت له : ماذا تريد ، وماذا تفعل هنا ؟ ، رد عليها بهدوء قائلاً : إني أتنشق الهواء ، هل آذيتك ؟! فقالت له : ولماذا تتجسس على بيتي ؟ ، رد الرجل : إني لا أسيء إلى أحد ، أليس مسموح الجلوس على الطريق ؟ ، ولم تجد شيء تجيب به ، فعادت إلى بيتها ، مر النهار ببطء ، وعند الظهيرة اختفى الرجل ، لكنه رجع نحو الساعة الخامسة ، ولم يرى في المساء .
عودة الصياد : عاد الصياد ليفيك لبيته عند حلول الظلام ، وتم اخباره بكل ما حدث في غيابه ، فقال لهم ، هذا متطفل أو خبيث ، فناما بلا قلق ، أما زوجته فقد ظلت تفكر في ذلك الحائم الذي نظر إليها بعينين غريبتين .
خوف الابنه والأم : عندما طلع النهار كانت العاصفة شديدة ، ورأى الصياد إنه لا يستطيع أن يركب البحر ، فساعد زوجته على إصلاح شباكه ، وفي المساء حوالي الساعة التاسعة ، عادت ابنة مارتان وهي تركد وقد بدى عليها الخوف ، وكانت تبحث عن الخبز ، وقالت لأمها : ماما ، ها هو ذا مرة أخرى ، ارتعبت الأم وقالت لزوجها وهي شاحبة ، اذهب وكلمه ليفيك ، أن يكف عن مراقبتنا هكذا ، فهو يخيفني بشدة .
الصياد ليفيك : خرج ليفيك بهدوء ، وهو بحار طويل القامة ، ذو عينين زرقاوان ولحية حمراء ، وعنق قوي متلفع دائماً بالصوف ، خوفاً من المطر والريح في عرض البحر ، واقترب من الحائم وأخذا يتحدثان ، والأم والأولاد ينظرون عليهما من بعيد قلقين ، ثم نهض الغريب واتجها سوياً إلى داخل المنزل ، ارتعبت الأم وتراجعت ، فقال لها زوجها : أعطيه قليلاً من الخبز ، وكأسا من الماء ، فهو لم يأكل شيئاً من أول أمس .
داخل المنزل : ثم دخلا المنزل ، كلاهما ، وتابعهم المرأة والأولاد ، جلس الحائم ، وطفق يأكل ، خافضاً رأسه الذي اتجهت جميع الأنظار إليه ، سأله ليفيك وقد تناول كرسيا قائلاً له : اذا فأنت آتي من بعيد؟ قال له : جئت من سيت ، فقال ليفيك مندهشاً : على قدميك هكذا ؟!، فقال له : نعم ، لابد من ذلك ، اذا لم نملك الوسائل ، فقال له ليفيك : وأين تذهب إذً ؟؟ ، قال له : أنا آتي إلى هنا ، فسأله ليفيك : هل تعرف أحدً ؟ ، تلعثم ثم رد عليه قائلاً : ممكن جداً .
المفاجأة : صمتا ، وصمت الجميع ، وكان الغريب يأكل على مهله ، رغم أنه كان جائعاً ، وكان يشرب جرعة من الماء بعد كل لقمة ، كان وجهه منهوكاً مجوفاً في كل أنحاءه ، وبدى عليه أنه تألم كثيراً ، فسأله ليفيك فجأة : وما اسمك ؟ ، فرد عليه دون أن يفكر قائلاً : اسمي مارتان.
اهتزت الأم في مكانها شديداً ، وكان يبدو عليه حينما تقدمت خطوة للأمام ، أنها تريد أن ترى ذلك الشريد عن قرب ، وظلت أمامه متدلية الذراعين فارغة فاها ، لم يقل أحداً شيئاً ، ثم استأنف ليفيك الكلام قائلاً له : أنت من هنا ؟ ، وحين أجاب ارتفعت عينيه ، وقابلت عيني المرأة وظلت العيون ثابتة متمازجة ، وكأن النظرات قد تعلقت بعضها ببعض .
ونطقت المرأة أخيرا بصوت متردد وخافت قائلة : أنت زوجي ؟ ، قال لها : نعم ، أنا هو ، وأكمل أكل خبزه ، فقال له ليفيك مندهشاً : أنت مارتان ؟ ، قال له مارتان : نعم أنا هو ، فسأله ليفيك : ومن أين جئت إذً .
حكاية مارتان : روى مارتان قصته قائلاً : من ساحل افريقيا ، غرقنا على الرصيف الرملي ، ونجى منا ثلاثة ، بيكار وباتيفال وأنا ، ثم أخذنا متوحشون ، واحتجزونا ، اثنتي عشرة سنة ، مات بهم بيكار وباتيفال ، وخلصني مسافر انجليزي ، أثناء مروره ، وجاء بي إلى سيت ، وها أنا ذا ، وأخذت المرأة تبكي ، وفي قلبها وخذه مما سمعته .
الوضع الجديد : قال ليفيك : وماذا سنفعل الآن ؟ ، سأله مارتان : أنت زوجها ؟ ، فقال له ليفيك: نعم ، أنا هو ، وأخذ الصمت يغزو المكان ، في حين أخذ مارتان ينظر للأطفال ، من حوله وأشار إلى البنيتين بحركة من رأسه ، وقال : هاتان بنتاي ؟ ، قال ليفيك : نعم بنتاك .
لم ينهض ولم يعانقهما ، ولكن اكتفى بالملاحظة ، أنهما كبرتان ، وكرر ليفيك السؤال : وماذا سنفعل ؟ ، وقال مارتان وهو حائراً : أنا سأفعل ما تريده ، لا أريد أن أضر ، ومع ذلك فالأمر يضايق ، بسبب البيت فلي ولدين ، ولك ثلاثة ، والزوجة كانت لي ولك الآن ، فالأمر متروكاً لك ، أما البيت فهو لي لأن أبي تركه لي وفيه ولدت ، ولي فيه أوراق لدى كاتب العدل ، واقتربت الابنتان بعضهما البعض وهما يبحلقان في أباهما الجديد بقلق ، وثم أردف قائلاً : ماذا سنفعل ؟ قرار الاحتكام إلى الكاهن : خطرت لليفيك فكرة ، أن يذهبا إلى الكاهن ، وهو من سيقرر الوضع ، نهض مارتان وبينما يتقدم نحو المرأة ، ارتمت على صدره وهي تنتحب قائلة : يا زوجي ، يا مارتان المسكين ،ها أنت ذا ! وتذكرت أيامها في العشرين من عمرها ، وأول زيجة لها ، وقد شعر مارتان بنفس شعورها ، وفجأة صرخ الصبيان بجوار المدفأة ، وهما يسمعان أمهما تبكي ، وصاح الوليد الرضيع الذي بين ذراعي ، ابنة مارتان الثانية بصوت حاد ، مثل صوت مزمار النشاذ.
كان ليفيك ، واقفا ينتظر ثم وقال : هيا لابد أن نسوي القضية ، حسب الأصول ، تحرك مارتان استعداد للخروج مع ليفيك ، وفي هذه الأثناء قالت الأم لابنتيها قَبلا أباكما ، فاقتربت منه البنتان ، مرتعشتان وخائفتان ، قبلهما الواحدة بعد الأخرى .
الحانة : خرجا الرجلان سوياً ، وبينما هما في الطريق ، توقفا عند حانة لتناول كأسين ، فقال ليفيك لصاحب الحانة التي كانت ما تزال خاوية : ناولنا كأسين ، فان ذاك مارتان ، زوج امرأتي التي فقد في الماضي ، فاقترب منه صاحب الحانه قائلاً : ها أنت ذا ، مارتان إذا ؟ ، قال مارتان له : نعم أنا مارتان .