حينما يمن الله على عباده بالتوبة تتحول حياتهم من نقيض إلى نقيض ، فبعد البلاء والمرض يأتي الرخاء مصطحبًا الراحة والصحة ، وتلك القصة عبرة بينة على ذلك ، وقد وقعت أحداثها عام 2001 بدولة البحرين حينما سافر الصديقان خالد وفهد إلى هناك لتلقي العلاج
فبعد وصولهما للبحرين أقاما بأحد الفنادق هناك ، واستسلم خالد للنوم بينما خرج فهد للتسوق وحينما ألم به الجوع بحث عن مطعم يأكل به ، فلفت انتباهه بمنتصف السوق مطعمًا مزدحمًا فدخل به ، وبصعوبة بالغة وجد منضدة شاغرة جلس عليها كي يتناول طعامه
وبينما هو جالس نزل رجل من سيارته الفارهة ، ورحب به العاملين بالمطعم بحفاوة كبيرة ، وإذا به يرقب الجالسين وفجأة توقف بصره عندي ، وقدم إليّ طالبًا مني الجلوس إلى جواري ، فرحبت به وأذنت له بالجلوس وبينما هو يجلس أمامي ، شعرت برائحة كريهة ونتنة تفوح من فمه ، فانزعجت ورجعت بالكرسي إلى الخلف محاولًا الابتعاد عنه قدر المستطاع
فقال لي الرجل بغتة : أشعر أنك متضايق من رائحة فمي المزعجة ، فقلت له بكل لطف لعل هناك سببًا لها ، فقال لي : صدقت يا شيخ فأنا مبتلي بشرب الخمر منذ أثنى عشر عامًا ، وكلما حاولت الإقلاع عنها لم أستطيع فقد أصبحت تسري في شراييني مسرى الدم ، وأخذ يتأفف يحزن ، فقلت له استغفر الله يا أخي يزيح عنك البلاء
فقال يا شيخ : أنا رجل ثري لدي من الملايين الكثير والكثير ، وقد رزقني الله بزوجة وأبناء ولكنهم لا يسألون عني ولا يفكرون في مرة أن يرفعوا سماعة الهاتف ويتصلوا بي ، لعن الله المخدرات فهي السبب ، فتعجبت من قوله ما علاقة المخدرات بما هو فيه ، فتساءلت قائلًا وما علاقة المخدرات بالأمر ؟قال الرجل بحزن ثقيل : أنا تاجر من تجار المخدرات الشيخ ، فاندهشت من صراحته وسقط مني ما بيدي ، فشعر الرجل بوقع الصدمة عليّ ، فقال : إن شئت غادرتك يا شيخ ، فقلت له بعد لحظات من الصمت : لا أبقى ولا ترحل ، وقطع قدوم الجرسون حديثنا حينما وضع أطباق العشاء أمامنا وانصرف ، وبعد أن أكلنا وشبعنا أخرج الرجل رزمة من الأوراق المالية ووضعها على الطاولة ، وقال يا شيخ إنها اثنان وثلاثون ألف دولار ، ولكنها من الحرام فبالله عليك ادفع أنت الفاتورة حتى ينفعني الله بما أكلت من حلال مالك
فدفعت الفاتورة وانصرفنا وفي الطريق أعرب الرجل عن ثقته بي وراحته معي ، وطلب مني العون والمساعدة فوافقت ولكني اضطررت للعودة إلى الفندق كي اطمئن صديقي على حالي وارتاح من مشقة السفر ، وحينما عدت أخبرت صديقي خالد بأمر هذا الرجل ، ففرح وقال لعلنا نستطيع أن نجذبه لطاعة الله والبعد عن تلك المنكرات
وبالفعل في الصباح اتصلت عليه ودعوته لتناول الفطور معنا ، فقدم إلى الفندق وأخذ خالد ينصحه بحلو الكلام حتى رق قلبه ودمعت عينه ، وأخذ يدعو الله أن يغفر له ، فعرضنا عليه أن نزور بيت الله الحرام متوجهين لأداء العمرة ، فأخذ يفكر في الأمر وفي الصباح اتصل يؤكد على رغبته في ذلك ، ولكن خالد اشترط عليه ألا يجلب درهما واحدًا معه من ماله
وعند وصولنا تجرد الرج من ثيابه وألقاها في حاوية النفايات ولبس ملابس الإحرام ، وبعد تأدية مناسك العمرة طلب منها الرجل أن يبقى بالحرم المكي لفترة ، فوافقنا ولكن اشترطنا عليه عدم المغادرة ، وحينما عدنا وجدناه نائمًا غارقًا في عرقه فأيقظناه وسقيناه من زمزم ولكنه طلب أن نفيض على جسمه الماء ففعلنا
وبعد خروجنا إلى السكن طلب منا العودة ثانية إلى الحرم ، فارتدى ابسط الثياب بعد أن كان يلبس الغالي والنفيس ، وحين ذهبنا لصلاة الفجر وجدناه والنور يشع من وجهه ، وطلب منا أن نجمعه بشيخ من شيوخ الحرم المكي الشريف ، فحددنا موعد مع أحد أئمة الحرم ، وأخذ الرجل الغني يستشيره فيما عنده من مال حرام ، وماذا يفعل به ؟فقال له الإمام تبرع به للفقراء والمحتاجين وسوف أدلك على بعض أهل الخير الذين قد يساعدوك في ذلك ، وفي نفس اليوم عدنا إلى البحرين وقمنا بتحويل المبلغ إلى أحد البنوك السعودية ، وبعد يومين عدنا إلى مكة وظللنا ماكثين بها ثلاثة أيام ، وبعدها غادرنا تاركين الرجل التائب ، وحينما عدنا بعد عدة أيام وجدنا صاحبنا التائب يرتدي زي عمال النظافة العاملين بالحرم ، وفي يده مكنسة يكنس بها الممر !فاقتربنا منه وسلمنا عليه فعرفنا وعانقنا بشدة ، وطلب منا أن نبارك له ، ولما سألناه عن السبب قال أنه قد توظف بالحرم كعامل نظافة مقال 600 ريال ، فباركنا له وهنأناه على هذا العمل الشريف المجدي ، واليوم وبعد مرور سنة كاملة لازال هذا الرجل عام نظافة بالحرم المكي ، يتعلم من أئمته ويحفظ كتاب الله المجيد وأحاديث رسوله الكريم ، فكما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وابشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
سورة فصلت ، الآية 30)