يقولون الغريب أعمى ولو كان بصيراً ، وهما تتابعان كل لافتة تمر عليهما ، وهذا ما كنت أقوم به فعلاً ، وأنا أجلس في الباص ذي الدورين ، بينما الباص يمرق مثل ثعبان استوائي بين أشجار الحدائق المليئة بالزهور الملونة ، التي ترسم مع مباني المصانع المعدنية اللامعة التي تحيط بها لوحة تكنولوجية بيئية كأروع ما يكون ، تذكرك بلوحات رسومات ألعاب البلاي ستيشن والسيارات والدبابات التي تمرح فيها ، في بيئة نظيفة نادرة خالية من الأدخنة ومن التلوث
لافتات الجن :
بدأنا ندخل رويداً رويداً لقلب المدينة النابض ، وبدأت ناطحات السحاب تلوح من بعيد ، حتى لفتت انتباهي لافتات غريبة تكررت أمام عيني أكثر من مرة ، على رأس كل شارع رئيسي ، فقد كان مكتوب عليها الحرفان Jn ، فتعجبت من وجود كلمة جن ، وهل الجن يظهر حقيقة في سنغافورة ، وكل شيء في سنغافورة جائز !الطريق :
لكن المسألة لن تصل معي لدرجة العمى ، لدرجة أنني أصبحت أقرأ الحروف اللاتينية بالعربي ، ولكن كادت عيناي فقط تصابان بالحول من كثرة التنقل بين لافتات العلامات التجارية ، وكذلك أسماء الشوارع المتتابعة ، التي يبدأونها هنا دائماً ب Jn ، وهما اختصار لكلمة Jalan ، التي تعني بلغة الملايو ، طريق ، وقد كان أول الجن الذي تشرفت بمعرفتهم في ذلك البلد هو Jn
Ahmed Ibrahim ، أو طريق أحمد ابراهيم ، بلسان عربي مبين
طريق أحمد ابراهيم :
لم أخش دهشتي للاسم بالطبع ، فقد عرفت أن ما لا يقل عن خمس سكان سنغافورة من المسلمين ، وطبيعي أن أجد هناك شوارع تحمل أسماء شخصيات مسلمة ، خصوصاً بعد أن سألت عن ، أحمد ابراهيم ، هذا فوجدت أنه كان أحد الشخصيات السياسية المهمة في تاريخ سنغافورة ، وكان وزيراً للقوى العاملة ، ووزيراً للصحة ، حتى وفاه عام 1962م ، فليس غريباً أن يوضع اسمه على شارع كبير، يبدأ بالقطع بكلمة ، جن ، ولم يعترض أي جني سنغافوري على ذلك
رابع أكبر مركز تجاري في العالم :
والحقيقة أن الجن موجود فعلاً في سنغافورة ، لكنه جن منظم جداً ، استطاع أن يجعل من جزيرة صغيرة ، مساحتها أقل من 700 كيلو متر مربع ، كانت في بداية القرن التاسع عشر تحت حكم سلطان الملايو ، ثم تعاقبت عليها القوى الاستعمارية الأجنبية طمعاً في موقعها المتميز ، في قلب طرق التجارة العالمية ، فتحولت لأكبر رابع مركز تجاري في العالم ، ومتحكم رئيسي في تجارة الترانزيت لجنوب شرقي أسيا ، ليصل نتاجها القومي إلى أكثر من 250 مليار دولار ، موزعا على أقل من 5 مليون نسمة
التقدم المتقن :
بتركيبة سكانية غريبة أغلبها من الصينيين ، ثم من الملايو والهنود ، والباقي من جنسيات مختلفة ، وفي وسط كل هذا الزخم الكبير للغاية ، من الموانئ والترسانات البحرية والمصانع والمراكز التجارية والمنتجعات السياحية ، المسألة بالفعل تحتاج لشخص جن ، أو ابن جنية ، ليدير كل هذه المنظومة المتكاملة ، وبكل هذا الاتقان
نهر صناعي صغير :
بدأنا نترك المنطقة الصناعية كليا وندخل في أعماق المدينة وزحامها ، وبدأت الأبراج العالية في الظهور ، ولكن من قريب ، ونحن مازلنا في طريق أحمد ابراهيم ، حتى تركناه وبدأت ألاحظ أن معظم الشوارع مجهزة بمصاف للمياه ، ويبدو الماء جارياً فيها طوال الوقت ، لتصب في نهر صناعي صغير ، تتجمع فيه مياه الأمطار التي تسقط بغزارة من سماء سنغافورة ، التي لا يوجد بها نهر واحد طبيعي ، فيجمعون ما تجود به السماء عليهم ، لتصبح مصدرًا وحيداً لمياه الشرب ، في نهرهم الذين صنعوه
مقر النعمة :
دخلنا أخيرًا لوسط البلد ، إلى محطة الأتوبيس الرئيسية ، وكذلك محطة المترو وبداية الخط ، الذي تستطيع منه أن تصل لكل جزء من أنحاء سنغافورة ، وإذا لم ترغب في الانتقال لأعماق سنغافورة ، فهناك مركز تجاري كبير جداً ، يكفيك عن الذهاب لأي مكان ، وكانت هذه محطة Boon lay ، أو مقر النعمة ، عفوًا لم تكن هذه صفة ، وإنما اسم المحطة ولكن بلغة الملايو