كثيرًا ما نسمع عن قصص الوفاء والعطاء وغالبًا ما نجد أكثرها ، قصصًا من جانب الآباء نحو أبنائهم ، ولكن أن نجد العكس ، فهذا هو الأقل حدوثًا بين بني البشر ، وإن كان غير منقرض
يقول الراوي وهو أستاذ جامعي ، بطل هذه القصة هو أحد أبناء البلدان العربية ، وهو أحد معاصري الفتنة الكبرى التي تشهدها هذه البلدان في أيامنا هذه ، ولئن كنت لم ألتقي به إلا مرات معدودة ، إلا أنني كنت دائم التأمل في سلوكياته التي تجعله ، بوضوح شديد يختلف عن غيره ، فهو بسيط ومتواضع وكريم بلا حدود
نشأ بطلنا الشاب كما علمت من أقرانه في بيت جود وكرم ، وتربى في حجر امرأة لم أسمع عنها ، ولكني رأيت تفاصيل أخلاقها بادية في ابنها ، لم أعلم عن أسرته إلا القليل ، فلم أدري هل والده حي يرزق ، أو له إخوة غيره ، أو له زوجه وأبناء ، لا أعلم عنه شيئًا تقريبًا ، وكل ما أملكه من معلومات بشأنه ، لا تتعدى أنه مثال فريد للتضحية والإخلاص
بدأت أحداث هذه القصة قبل أن ألتقي بهذا البطل ، ولكن أشد فصولها تأثيرًا أشاهدها رأي العين هذه الأيام ، حيث جاءني أحد أقرانه ليشفع لبطلنا عند شخصي المتواضع ، كوني تربطني بهما علاقة رسمية كأستاذ وهم طلابي
بدأ صديقه يقص على مسامعي قصته ، ويخبرني بأسباب تقاعسه غير المتعمد عن أداء مهامه المكلف بها ، ويدعوني للنظر إليه بعين الرأفة ، وأن أستخدم ما أملكه من صلاحيات بسيطة لأقف إلى جواره في محنته ، مثلما وقف بطلنا إلى جوار أمه في محنتها !فسألت رفيقه ، كيف للمرء أن يقف بجوار أمه ؟ وأليس من المعتاد أن نقف إلى جوار أمهاتنا ، إذا ما احتجن إلينا ؟ ما الذي فعله هذا البطل ميزه عن غيره ؟ ، أجابني رفيقه بأنني إذا ما استمعت إلى القصة كاملة ، لغيرت رأيي تمامًا ، بالإضافة إلى أن ظروف بطلنا ليست عادية ، وهذه هي التفاصيل
والدة البطل سيدة مسنة ، وبحكم سنها المتقدم عانت كثيرًا من بعض المشاكل الطبية المستعصية بالكلي ، وكانت تحتاج إلى عملية عاجلة لنقل كلية جديدة لها ، فور توفر أحد المتبرعين ، فما كان من بطلنا إلا أن تبرع هو لأمه بكليته ، وأصر على ذلك حيث لا ينافس حبه لأمه أي حب
وكانت والدته هي الأخرى ، تحبه حبًا جمًا فرفضت أن يخوض ابنها تلك المبادرة ، خشيت عليه أن يعاني بقية حياته ، وهو الشاب الثلاثيني الذي يبدأ حياته ، ولكن السيدة بكت ورفضت أن ينصاع الأطباء لرغبات ابنها ، فهي على أتم استعداد لمواجهة قدرها المحتوم ، فهي قد أخذت حظها من الدنيا ، ولا تريد لابنها أن يشقى أبدًا
ولكن أمام الإرادتين كانت إرادة الابن هي الأقوى ، ولم تجد دموع أمه أمامه إصراره شيئًا ، أو حتى رفض الأطباء لرغبته ، فهي قرة عينه التي لا يطيق عيشًا دونها ، وعلى استعداد لبذل عمره فداها
امتثل الجميع لإرادة الله عز وجل ، وأجرى الأطباء العملية وتم نقل كلية الابن إلى أمه ، ولكن عقب مرور أيام معدودة ، بدأت صحة الابن البار في التدهور تدريجيًا ، وصارت مشكلاته الصحية تتفاقم يومًا بعد يوم ، حيث كست علامات المرض وجهه وجسده ، وأقعدته طريح الفراش ، ولا يقوى على السير خطوات بسيطة ، ولا يخرج سوى للذهاب إلى المراجعة الطبية ، وهذا هو ما لحظته أثناء متابعتي الحثيثة له
هنا بادرت رفيقه بسؤالي عن حالته الصحية ، فأجابني عن موقف للبطل هذا ، وقال لي أنه بأحد الأيام تعرض لأزمة صحية كبيرة ، وكانت هبوط حاد بالدورة الدموية ، ناتجة عن قصور في عمل الكلية
مما دفع أقرانه لحمله ، والذهاب به ركضًا إلى المشفى لتلقي العلاج ، وكانت والدته معتادة أن تهاتفه للاطمئنان على صحته ، أولاً بأول فجلس بطلنا يستحلف رفاقه ، بألا يخبرونها بأنه قد تعرض لأزمة صحية ، حتى لا تُصدم فهي لن تتحمل أن تسمع شيئًا ما ، قد تعرض له ، وأخبرنا جميعًا أطمئنكم أمي بخير ، فيالها من تضحية وبذل بالفعل وليس القول
مرت الأيام ، وبدأت صحة البطل في التدهور بصورة أكبر ، وها أنا الآن أراه يسير على عكازين ، ويمشي محني الظهر ومطأطئ الرأس ، وهو مازال شابًا في الثلاثينات من عمره
نعلم جميعنا أن الأعمار بيد خالقنا ، وأن الجراحة إذا ما تطورت بهذا الشكل السيئ ، فهذا يعني أنها لم تنجح بالشكل المطلوب ، ولكن أي شاب هذا الذي فضل أن يمنح أمه الحياة ، على أن يستمتع هو بزهرة وريعان شبابه ، تلك المخاطرة التي ما كانت لتأتي سوى من قلب عامر بالحب
أنا معلمه الذي رآه يركض بين زملائه ، ها أنا أراه أمامي يكتم آلامه ، وأشعر بغصة في حلقي ، وألم في قلبي بين أضلعي ، وأنا أشاهده على تلك لحالة الرثة ، ولكنه البطل صاحب الجملة التي لن تُمحى من ذاكرتي يومًا ، أطمئنكم أمي بخير ، جملة قصيرة وبسيطة ، ولكنها تحمل آلاف المعاني بين طياتها