تصاعد دخان المراجيل والسجائر في المقهى المكتظ برواده من كل حدب وصوب ، وكل عمر ودهر ومن كل صنف وضرب ، كذا الأمر تصاعدت أصوات قرقعة حجارة النرد ، وضربات قطعها البيضاء والسوداء على الطاولات ، التي بدورها اختلطت مع أصوات أوراق اللعب
أحاديث المقهى :
ذلك كله اختلط مع أصوات الزبائن المتعالية والمختلفة بشتى اللهجات والنبرات والموجات ، منها الضاحك ومنها من يصيح طالبا لشاى أو قهوة أو نرجيلة أو حجر لها ، ذلك كله اختلط بأنواع شتى من التعابير والقصص والروايات المختلفة ، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو سياسي يتحدث عن أحوال البلاد الداخلية والخارجية ، ومنها ما هو اجتماعي حول زواج فلان وطلاق فلانه وولادة فلان
في زاوية المقهى :
في احدى زوايا المقهى المنزوية ، كان هنالك طاولة جلس عليها رجل كهل ، في الستينيات من عمره ، أشيب الشعر مجعد الوجه يدخن الغليون وأمامه كأس شاي كبير ، كان يحضر بشكل شبه يومي مغرب كل يوم ، ويقضي مساءه على هذه الطاولة التي اعتاد مكانها في زاوية المقهى متآلفًا مع المكان والموقع بمتعة قوية
مميزات المقهى :
إلى جانبه كانت هناك طاولة خشبية أخرى ، اعتادها يوميًا ثلاثة أشخاص في التوقيت نفسه ، يقضون الوقت بورق الكوتشينة والثرثرة اللامتناهية ، واللامعينة على الطاولة نفسها ، المقهى نفسه يمتاز بميزة حفظ الطاولات تلقائيًا للزبائن الدائمي الارتياد
الانبساط والاستماع :
كان هنالك حديث يومي للأشخاص الثلاثة ، بعد لعب الكوتشينة وبدء استراحة الشاي ، حديث بدأ لديهم منذ يومين أو ثلاثة أيام ، كان يطيب للكهل الستيني العمر أن يستمع اليه ، وهو يدخن الغليون ويرتشف الشاي ، الحديث بالنسبة لهؤلاء كان بكل بساطة عن غرائب أشخاص معينين ، وكيفية حياتهم وموتهم ، وهو ما كان يشكل لذة الاستماع للكهل الجالس بجانبهم ينصت إليهم بهدوء وصمت
سر المهنة :
يبدأ أحدهم الكلام عن أحد الأشخاص قائلًا :هل سمعتم قصة فلان ، أنها أغرب القصص ، الرجل كان يمتلك أغرب موهبة للحفر على الخشب بطريقة لا حد يتقنها غيره ، وللأسف لم يعط لأحد سر المهنة هذه ، وما لبث أن مات ومات سره معه
حكاية أخرى :
يجيب الشاب الثاني .. هل سمعتم بقصة فلان ؟ انها أغرب من قصتك هذه ، هذا الرجل كان الوحيد القادر على ضرب المندل ، ومعرفة الطالع ، والشفاء بالرقي من السحر والكشف عن المخفي والمستور ولم يعرف أحد سر ذلك ! وقد حاول كثر معرفة هذا العلم ، ولكنه لم يعط هذا العلم لأحد ومات ومعه سره
جرة فخارية كبيرة مملئة ذهبًا :
يأخذ الثالثة مجة من النارجيلة وينفث دخانها في الهواء ، ثم يرتشف رشفة من الشاي الساخن ويخاطب زميليه ، يا سيدي أنا أعرف شخص كان إقطاعي ومالك أرض في بلدتنا ، وقد كان يمتلك الأقنان والأطيان ويتسلط على الأعيان في معظم الأحيان ، وقد بلغ من غناه أنه كان لديه جرة فخارية كبيرة مملئة ذهبًا
لكنه شاء ألا تكون لأحد من بعده ، وقد حاول جميع أولاده وأقاربه معرفة مكان دفنها ، ولكنه لم يبح بمكان وجودها لأحد ، ومات الرجل وذهب معه سره .. ولم يعرف أحد أين جرة الذهب هذه
سر الخلطة السرية :
مر يومين أو ثلاثة على هذه الحالة ، والخلان الثلاثة يتداولون قصص غرائب الأشخاص ، وأسرارهم وعلومهم الخاصة ، رجل يصنع صابون غريب عجيب يشفي الجلد من الأمراض ولا أحد يعرف سر الخلطة السرية له ، رجل يقوم بتركيب سائل يشفي العين بلمح البصر ولا أحد يعرف سر الخلطة له ، والخ ..الخ ..الخ ، وكل هؤلاء ماتوا دون أن يعطوا سرهم لأحد
صوت الكهل :
وفي آخر رواية لهم عن رجل يفك السحر والربط بقراءة كلمات روحيه لم يقل سرها لأحد ، أتاهم صوت الرجل الكهل فجأة ، والذين لم يعيروا انتباه لوجوده ، قائلًا : أيها السادة الأفاضل .. منذ ثلاثة أيام وأنتم تتداولون في غرائب الناس وأسرارهم وأعمالهم ، والناس الذين حاولوا ملء جهدهم الحصول على سرهم العظيم ، ولم يفلحوا في ذلك .. أما أنا فأعرف رواية عن شخص أغرب من قصصكم كلها .. ولا يمكن تصورها لأنها عجيبة ، وغريبة ولم أعرف لها تفسيراً حتى الآن !انتبه الثلاثة وانتفضوا باتجاه الصوت ، قائلين في نفس واحد : من هو هذا الشخص ؟ وما قصته ؟ أفدنا أفادكم الله !في بلاد الغرب :
أزاح الكهل الغليون من فمه ، ثم نفث ما تبقى من دخان في الهواء ، وقال : قصة هذا الرجل أيها السادة ببساطة هي أنه عالم مخترع ، درس في الجامعات والأكاديميات الأجنبية واطلع على مجمل العلوم الفكرية ، وبرع بها وتحصل على أعلى الشهادات فيها .. وله مؤلفات وكتب ومطبوعات في العلوم وعلم الاجتماع والمجتمع ، وحاصل على جوائز علمية تقديرية ، ذلك كله في الخارج في دول الغرب
ذهب فكره معه :
لكنه حاول عبثًا نشر علمه وفكره في مجتمعاتنا فلم يفلح ، عبثًا حاول نشر الثقافة بين الناس وإعطاءهم ولو جرعات خفيفة منها تقيهم شر الجهل ونوائبه وعواقب مصائبه ، فلم يفلح ولم يستطيع إلى ذلك سبيلاً ، إذ أعرضوا عنه وأصموا آذانهم عن قوله ، ومات الرجل وذهب معه فكره
غرائب الأشخاص وعجائبهم :
نظر الرجال الثلاثة بعضهم إلى بعض ، ثم هزوا رؤوسهم علامة عدم الفهم ، وعدم الارتياح والإعجاب .. ثم عادوا إلى سيرتهم الأولى فيما كانوا عليه من غرائب الأشخاص وعجائبهم