يعد مرض الجدري من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان ، وهو عبارة عن فيروس معدي يظهر على جلد الإنسان بصورة بثور ودمامل صغيرة وكبيرة ، تكون سريعة الانتشار ، كان المرض في العهود المنصرمة من الأمراض القاتلة ، بمجرد إصابة المريض به ، يتم عزله حتى الموت إلى أن تم اكتشاف لقاح لمنع الإصابة به من الأساس .قصة انتشار المرض :
فكان انتشار مرض الجدري في العصور الوسطى يعد من الأمراض المزمنة والقاتلة ، ولم يكن لها علاج سوى بعض الوصفات الغريبة ، التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، والجدري كما سبق الذكر عبارة عن فيرس ينتقل بالعدوى ، ينتشر على شكل حبوب وبثور بجسد الشخص المصاب ، ثم يتحول هذا إلى طفح وردي شديد على كل الجسد .وينتشر ببطء في باقي جسم الإنسان ، ويصاحب ذلك ارتفاع في درجة الحرارة المصاب ، مع ظهور الصداع المزمن ، وإرهاق العضلات وألام الظهر والبطن ، ولا يتم عالجه حاليًا إلا بواسطة التطعيم منذ الصغر ، والعزل عند الإصابة مع أخذ المراهم والمضاد الحيوي لتخفيف حده البثور.وقد اجتاح مرض الجدري أوروبا بين القرنين السابع والخامس الميلادي ، وحصد العديد من الأرواح ، فقد قضى على ما يقرب من ستين مليون شخص حتى الفترة التي ظهر بها الطبيب إدوارد جينر Edward Jenner ، وهو يعد المكتشف لعلاج مرض الجدري.وقبل التوصل لعلاج المرض ، كان هناك العديد من الوصفات المتبعة والتي لا تمت للطب بصلة ، فمثلا قام الطبيب سيدنهام في القرن السابع عشر بعلاج مرضاه عن طريق إبقاء النوافذ مفتوحة ، ومنع إشعال النار في غرفة المريض بالإضافة إلى إعطاء المريض 12 زجاجة من البيرة قليلة الكحول كل 24 ساعة ليفقد وعيه بالتالي لا يشعر بالألم .!اكتشاف العلاج :
لم يكن الطبيب إدوارد جينر الذي ولد عام 1749م ببريطانيا شابًا عاديًا ، فقد كان شغوفًا بالعلم منذ صغره ، ويعتبر هو رائد علم التمنيع ، أي اكتشاف الأمراض التي لها علاقة بالمناعة ، ويقال أنه في بداية شبابه وعنده اشتغاله بالجراحة جاءت إليه فتاة حلابة للبقر تسأله في مرض ما ، ولما كان الجدري متفشي في ذلك الوقت ، سألها هل أصيبت بالمرض أم لا ، فأجابته بكل بساطة أنها أصيبت بجدري الأبقار (Cowpox) في الصغر وبالتالي لن يصيبها جدري البشر.لم تمر هذه الكلمة على أذن الطبيب الشاب مرور الكرام ، فأخذ يفكر فيها كثيرًا ، وحدثه أستاذه جون هنتر John Hunter، والذي كان أشهر جراحي انجلترا وعلمائها في ذلك الوقت ، ولكنه لم يلق لتصورات جينر اهتمامًا.ولكن جينر لم ييأس ففي عام 1798م نشر عدة كلمات في الطب الوقائي يقول فيها : لقد تخيرت صبيًا سليمًا في الثامنة من عمره بغرض تجريب تطعيمه بجدري البقر ، وحصلت على القيح من إحدى العاملات في حلب الأبقار ، وتم حقن الصبي بهذا القيح في 14 مايو عام 1796م بذراعه ، فبدا عاديًا في أول الأمر ، ولكن في اليوم السابع اشتكى متوعكًا.وفي اليوم التاسع أخذ يرتعد ، وفقد شهيته للطعام ، وشعر بالصداع ، وفي اليوم الذي يليه صار بحالة جيدة تمامًا ، وبعد تعريضه لجدري البقر بفترة ، قمت بحقنه بجدري البشر ، ولكن لم يؤثر به ، فقد أفقدت الإصابة السابقة بجدري البقر مفعول قيح جدري البشر .وهكذا استطاع جينر أن يصل لعلاج التطعيم ضد جدري البشر ، وذلك بتلقيحهم جدري البقر ، والذي يشبه جدري الإنسان ، ولكنه ليس خطير مثله ، والجدير بالذكر أن الصبي محل التجربة لم يكن سوى جيمس فيبس الابن الوحيد لإدوارد جينر .اسهامات جينر الطبية :
رغم نجاح جينر إلا أن أصوات المعارضين تعالت ضده ، وتم رفض ورقة البحث التي قدمها في هذا الاكتشاف ، فاضطر أن ينشرها بنفسه عام 1798م بعد أن كثرت حالات التطعيم الناجحة التي قام بها ضد جدري الإنسان.وتنبع أهمية محاولة الطبيب جينر في أنها المحاولة الأولى للسيطرة على أحد أمراض المناعة بواسطة اللقاح ، وقد كان لدوره هذا أثرًا عظيمًا لا ينسي ، وذلك لأنه ضحى بابنه في سبيل اكتشاف العلاج ، وإنقاذ الملايين من الموت المحقق على يد هذا المرض اللعين .حصل جينر على الدكتوراه الفخرية في الطب من جامعة أكسفورد عام 1813م ، وبعدها بعشر سنوات توفي عن عمر يناهز السبعين عام 1823م ، تاركا لنا بابًا مضيئًا في علم المناعة والطب ، نسير على دربه حتى اليوم .