كلنا يعلم أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، قد دعا الله بقوله : أعوذ بك منك .. أي : أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جلالك ، فلن يحميني من صفات جلالك إلا صفات جمالك ، ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صلّ الله عليه وسلم : فإذا ما كانت آخر ليلة من رمضان تجلّى الجبّار بالمغفرة .الجبار والمغفرة :
يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية ، فكيف يتجلى الجبار بالمغفرة ؟ ألم يكن من المناسب أن يقال : يتجلى الغفّار ؟ ونقول : لا ، فإن المغفرة تقتضي ذنبًا ، ويصبح المقام لصفة الجبار ، وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سلطتها ، وكأننا نقول : يا جبار أنت الحق وحدك ، لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صفات جلالك ، هذا هو معنى : يتجلى الجبار بالمغفرة .الأصمعي والدعاء عند الملتزم :
وقد سمع الأصمعي وهو يطوف ، مسلمًا عند الباب الملتزم ، يقول : اللهم إني أستحي أن أطلب منك المغفرة ، لأني عصيتك ، ولكني تطلعت فلم أجد إلهًا سواك ، فقال له : يا هذا ، إن الله يغفر لك لحسن مسألتك .التوبة :
ثم يقول سبحانه وتعالى : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) ..صدق الله العظيم ، والتوبة أولاً كما عرفنا ، هي تشريعها ، ثم تأتي التوبة بالقبول ، وقوله : (لِيَتُوبُوا) ..أي : أنها تصبح توبة رجوع وعودة ، إلى ما كانوا عليه قبل المعصية ، وينهي الحق الآية بقوله : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).. صدق الله العظيم ، فلا تواب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى .مناداة الله عباده بالإيمان أو المؤمنين :
ويقول الحق بعد ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
.. صدق الله العظيم ، وساعة ينادي الحق عز وجل عباده المؤمنين ، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالإيمان ، وإما أن يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قوله الحق : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
صدق الله العظيم .والحق سبحانه وتعالى يبين للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم ، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه ، فيطلب منه الحق دوام الإيمان ، فإذا طلب الله من عباده ما كان موجودًا فيهم ساعة الخطاب ، فالمطلوب دوامه ، وإن طلب منهم حكمًا يتعلق بالإيمان ، فهو يوجههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم ، ومثال هذا قوله الحق سبحانه (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ
وكلمة اتقوا ، تعني : اجعلوا بينكم وبين الله وقاية ، ويتساءل البعض : هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين ربه وقاية ؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معية الله .صفات الجلال والجمال :
وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال ، إن قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ ).. يعني : اجعلوا بينكم وبين الله صفات الجلال وقاية ، مثلما قال سبحانه : (فَاتَّقُوا النَّارَ
.. لأن النار من جنود صفات الجلال ، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية في صفات الجلال .تفسير مع الصادقين ومن الصادقين :
وهنا يقول الحق : (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) صدق الله العظيم ، وفسر بعض العلماء قوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
.. بمعنى كونوا من الصادقين ، أي : أم مع هنا بمعنى من ، والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليًا عامًا ، ولكن : هناك فرق بين
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
وبين
وكونوا من الصادقين
فقوله الحق :
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
أي : التحموا بهم فتكونوا في معيتهم ، وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.النسبية الكلامية والنسبية الذهنية :
ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية ، والنسبة الذهنية ، فأي قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية ، مثل قولك : محمد زارني ، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء إلى ذهنك أن تنطقها ، وهذه نسبة ذهنية ، ومن يسمعك لا يدري بها ، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها ، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب ، علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولاً بالنسبة الكلامية .فحين قلت :
محمد زارني بالأمس
، جاءت في ذهنك قبل أن تقولها ، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين ، نسبة سمعها عن نسبة عندك ، وحين يمحص السامع هذا القول ، يعلم أن هناك واحدًا في الواقع اسمه محمد ، وعلم منك أنه قد زارك ، وخبرته معك دائمًا أنك صادق .