لقد أكد المولى عز وجل أن الفرار من القدر لا يمنع من وقوعه ، فأقدار الله لا محالة من وقوعها ولا يوجد فرار من الموت لأنه حقيقة واقعة ، وقد ورد بسورة البقرة قوله تعالى : “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ”.قصة الذين خرجوا من ديارهم :
لقد تحدث المفسرون في توضيح هذه الآية الكريمة ، حيث وصل علمهم إلى أن هؤلاء القوم الذين خرجوا من ديارهم هم قوم من بني إسرائيل ، وتفشى بينهم الطاعون ففروا هاربين من ديارهم خوفًا من الموت فأماتهم الله جميعًا .لقد قال أغلب المفسرون أن هذه البلدة التي فرّ أهلها كانت قرية تُدعى دَاوَرْدانُ قِبلَ واسط ، والتي حلّ بها الطاعون ، فقررت طائفة منهم الخروج من القرية بينما بقيت طائفة أخرى ولم ترحل ، فهلك أكثر أهل القرية الذين بقوا بها ، بينما أصبح الذين خرجوا منها سالمين .وحينما ارتفع الطاعون عن القرية عاد الذين خرجوا سالمين ، وحينها قال الذين بقوا في القرية :” أصحابنا كانوا أحزم منا ؛ لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها ” ، وبالفعل وقع الطاعون فهرب معظم أهل القرية ، ورحلوا حتى وصلوا واديًا أَفْيح .وحينما نزل أهل القرية إلى ذلك المكان الذي كانوا يبتغون فيه النجاة من الموت ؛ ناداهم ملك من أسفل ذلك الوادي وهناك آخر كان في أعلاه :” أن موتوا” ، فماتوا جميعهم ، وقد ورد عن عبد الله بن عامر أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم قال عن الطاعون :”إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه”.وقد تحدث مقاتل والكلبي والضحاك عن أمر هؤلاء القوم الذين فروا من ديارهم حيث قالوا :” إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكًا من ملوك بني اسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جَبنوا وكرهوا الموت ، فاعتلوا وقالوا لملكهم : إن الأرض إن الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء”.وهنا كان عقاب الله شديد حيث أرسل عليهم الموت وهم في مكانهم ، مما جعلهم يخرجون من ديارهم فرارًا من ذلك الموت ، وقد توسل ملكهم إلى الله قائلًا :” اللهم رب يعقوب وإله موسى وهارون قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك”.واستجاب الله دعاء الملك وقال لهم :”موتوا”، فماتوا جميعًا وماتت الدواب التي كانت معهم كموت رجل واحد ، وانتفخت أجسادهم في غضون ثمانية أيام ، وحينما خرج إليهم الناس عجزوا عن دفنهم ، مما جعلهم يحظرون عليهم حظيرة دون السباع ، وهكذا تركوهم ورحلوا .وهناك خلاف على عدد هؤلاء القوم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، فهناك من قال أنهم كانوا ثلاثة آلاف وهناك من قال أنهم كانوا أربعة آلاف ، وقال آخرون أنهم كانوا ثمانية آلاف ، وهناك من تحدث بأنهم يزيدون عن العشرة آلاف لأن الله تعالى قال لفظ “ألوف” وهو جمع الكثير .وقيل أنه ذات يوم مرّ عليهم نبي يُدعى “حِزقيل” بعد أن ماتوا وهلكوا ، فوقف عندهم متأملًا فأوحى الله إليه كي يريه آية من آياته سبحانه وتعالى ، فأحياهم المولى عز وجل ، وقد حدث خلاف على موعد إحياءهم والسبب في ذلك ، حيث قيل أنهم كانوا قوم حِزقيل فدعا الله أن يحييهم فأحياهم الله ، وعادوا إلى قومهم وعاشوا حتى جاءتهم آجالهم المقدرة .