نظرت عبر النافذة ، فرأت قطع الثلج المتراقصة ، تندفع باتجاه الزجاج لتلتصق به ، حدقت ببلوراته ، فتراءت لها أضواء الجبل ، بحثت عن الجبل فرأته مازال في مكانه كما كان ، متلفعا بالضباب الرمادي ، المزين بنجميات صغيرة ملونه ودافئة .بين الماضي والحاضر :
تسلل الماضي إلى الحاضر ، صدف تحمل الماضي في جيوبها وتخرجه كولاعه لإشعال السيجارة ، وسجائر لا تنطفئ وولاعات تخرج من الجيوب ، لتضيء الماضي ثم تطفئه ، ولكن وميضه يلتصق بذاكرة العيون .المرأة والعزف على أوتار العود :
لم لا تحن أصابعك الخشنة على جسدي كما تحت على جسد العود ؟ لم لا تلمس روحي ، كما تلمس روحه حين تسمع صوته ، وتعرف أين يئن الرطوبة ؟ فسمعت صوته مندفعا من قاع النسيان : لأنني أشعر أن العود أكثر وفاء من أي امرأة ، فمهما بعدت عنه ومهما هجرته ، يعود فيحتسب لي ما أن ألمس أوتاره مرة أخرى ، ولا يجافيني مهما طال فراقنا .ليل دمشقي بارد :
مطر دمشقي حزين ، يحاول غسل أدران المدينة ، وقطة ملونه تسير فوق السور مبللة ، سحب رمادية تهبط على أسطح المنازل ، راغبة في سرقة القليل من الدفء وبرد ينخر العظام ، وهي تقبع في السرير مهزومة تستمع إلى صوت شخير وتحدق بعينين حادقتين نحو السقف .أقدام ثقيلة فوق الذاكرة :
استيقظ في الليل وناداها : هل أنت نائمة ؟ ، ثم أراح جسده بجوارها ، وقد تسللت إلى أطراف أصابعه رعشة ، رعة الخوف والوحدة القاتلة التي تجتاح الدماغ والقلب ، وأناس كثيرون يخطون بأقدامهم الثقيلة فوق الذاكرة ، ويمرون بسرعة تاركين آثار خطواتهم مطبوعة بعمق على جدار الدماغ ، رأت جدرانا كتب عليها : نعم للمقاومة ، كلنا للجنوب ، وحين اقتربت منها استنشقت رائحة كريهه جدًا .كلهن يقلن ذلك :
قامت من فراشها ، دخلت للاغتسال ، رأت علامات العشق تلطخ جسدها ، لبست ثيابها دون خجل ، وكأنها فعلت ذلك مرارًا من قبل ، وسخرت من نفسها حينما أخبرته أنها تفعل ذلك لأول مرة ، عندها رنت ضحكته الساخرة في أذنها ، وقال لها: كلهن بقلن لي ذلك ، فأدركت أنه لا يصدقها ، والمدينة كلها بغي تختبئ في ثوب القدسية ، والقديسه داخلها امرأة هرمة تعبت من الانتظار ، انتظار البداية أو النهاية .امرأة أخرى :
كانت تعرف أنه في تلك اللحظة ، يعانق امرأة أخرى ، ربما هما مستلقيان ، هو ناحية الجدار وهي بقربه ، يضمها فينام ، ويستيقظ في الليل من الكابوس ، فتقول له : نم ، لا تخف ، انني بقربك ، تمسد شعره لينام ، وتغني له : أتأخذنني معك ، فأكون خاتم قلبك أتأخذنني معك فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك لتصرعك ، وأكون تابوتًا من النعناع يحمل مصرعك ، وتكون لي حيًا وميتًا !.. فلا يجيب لاستغراقه في النوم .الدم والأرض والهزيمة والموت :
جسد تلك البغي على سفح الجبل ، يعبق برائحة الرجال المختلفين ، ولكنها حين ترتدي الضباب الأبيض عباءة ، تتحول رائحتها إلى مزيج من البخور ورائحة الصباح ، رائحة عطره ، تستمع إليه بينما يحدثها عن الذين اغتيلوا ، يخبرها عن الهزيمة والدم وعن الأرض ، وعن قطع الغيوم التي تشبه أرضًا محروثة ، وعن البحر الذي يتحول إلى صفيحة معدنية ملتهبة عند الغروب ، ثم يستلقي مهزومًا تعبًا ، فتضع يدها على صدره ، فتنتقل ضربات قلبه المضطربة إلى دمها .ذرة غبار :
المرأة الأخرى تخاف عليه من ظل نسمة ، أما هي فمما تخاف عليه ؟ أنها الآن معهما في الغرفة ، ذرة غبار ، تتأمل حنينه للمرأة الأخرى ، تتمنى لو تعرف بماذا يحلم ؟ ولم يتقلب في الليل ؟ حتى حين يكون بقربها ، تغزو المرأة الأخرى أحلامه .المدينة لا تسعها :
عانقت بنظرتها فضاء المدينة فأحست به يضغط عليها ، دمشق لا تسعها ، تضيق بها ، تخنقها ، رأت سربًا من الغربان الضخمة ، وسمعت نعيبها وصوت الماء يقطر : تك .. تك.. تك ، حاولت أن تسمع صوت خطوات تصعد الدرج ، برد وفراغ ووحدة ، وانتظار دقة باب أو رنة جرس ، استلقت لتحاول استحضار النوم ، ولكنها حينما استنشقت رائحة جسده في الفراش أجهشت بالبكاء .