كانت الساعة الثالثة ظهرًا ، وكانت شمس أغسطس الحارة تخنق الأنفاس بأشعتها الحارة ، الممتزجة بالغبار ، حين وقفت عربة من الدرجة الثالثة مخصصة لنقل الموتى ، أمام باب إحدى العمارات الجديدة في حي براتي كاستولا بمدينة روما ، وكانت أغلب هذه العمارات غير مسكونة وقد بدت من خلال نوافذها كأنما تنظر في ذهول إلى هذه العربة السوداء .نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الايطالي ، للكاتب لويجي بيرانديلو ، ولد في 28 يونيو عام 1867م ، في مقاطعة كافسوس في ايطاليا لأسرة ثرية تنتمي للطبقة البرجوازية ، تخرج من جامعة بون ، عمل كاتب مسرحي وشاعر إيطالي ، من أبرز كتاباته : هنري الرابع ، الحياة التي منحتك إياها ، ستة شخصيات تبحث عن مؤلف ونال جائزة نوبل للأدب عام 1934م ، وتوفي في روما في العام 1936م عن عمر يناهز 69 عامًا .سائق العربة :
لقد شيدت وارتفعت لكي تستقبل الحياة ، ولكنها بدلاً من الحباة التي تعد نفسها لاستقبالها ، تفاجأ بالموت يختار ضحاياه من بين سكانها بالذات .. فالموت ، قبل الحياة لقد أقبلت تلك العربة في بطء وهدوء ، ولقد استولى النعاس على سائقها الذي يكاد يهوى ، وقد سحبت قبعته فوق جبهته وأمالها حتى لامست أنفه ، ووضع رجلاً على غطاء العجلة القريبة ، وحين وصل أمام أحد الأبواب الحاملة علامة الحزن والحداد ، توقف ثم اضطجع ونام راحة وطمأنينة ، فوق الصندق .البقال والسائق :
ومن الدكان الوحيد المجاور خرج إليه من تحت مظلته القذرة الباهتة رجل يتصبب عرقًا وقد رفع كمي قميصه حتى بدت ذراعاه بشعرهما الكثيف ، وهتف موجها كلامه إلى السائق : بس هناك ابعد قليلاً هناك ، فسحب السائق قبعته قليلاً حتى يستطيع رؤية الشخص الذي يهتف به ، وشد اللجام وابتعد عن الدكان دون أن يقول شيئًا ، هنا أو هناك ، سواء في نظره ، قال البقال الذي كان يراقبه : إنه لحمار ، ألم يفطن إلى جميع الأبواب مواربة في مثل هذه الساعة ، لابد أنه جديد على المهنة .سيء الحظ :
وهكذا كان الأمر في الحقيقة ، انه جديد على المهنة ، لم ينسب إليها إلا من ثلاث أيام فقط ، ولم يرق له العمل على الاطلاق ، لقد اشتغل بوابًا واختصم مع جميع الجيران ، ثم مع صاحب العمارة وعمل حارسًا في الكنيسة ، ولكن سرعان ما اختصم مع القسيس ، ثم عمل سائق لأحد عربات الأجرة فتخاصم مع المتعهد .ولم يجد بدًا في ذلك الموسم الخامد من أن يعمل مع احدى متعهدي الدفن ، وهو على يقين انه سوف يتشاجر في يوم من الايام ، لأنه لا يستطيع تحمل الأشياء المعوجة ، ثم انه انسان سيء الحظ ، باختصار يكفي أن تتأمله لتتأكد من ذلك ، فله كتفان يتداخلان مع الرأس ، وعينان كوتان مفتوحتان ، ووجه أصفر كأنه شمع وأنف أحمر .في انتظار التابوت :
لقد كانت تضايقه حمرة أنفه ، فقد كان الناس يفسرونها اما على نها من السكر أو الادمان ، بينما هو لم يذق طعم النبيذ قط إن حقده على الحياة بلغ حده ، ولابد ان يضع لها نهاية في وقت قريب ، وحينئذ ستكون معركته الأخيرة مع مياه النهر ، أما الآن فهو هناك ، يأكله الذباب تحت أشعة شمس أغسطس الحارقة في انتظار شحنته الأولى .وبعد أن مضى نصف ساعة تقريبًا ، خرج اليه من احدى العمارات الواقعة على الجانب الآخر من الطريق الحاملين ، يلهثون تحت ثقل تابوت بائس ، مغلف بقطيفة سوداء ، وقد حفت حواشيه بأشرطة بيضاء ، وكانوا يلعنون ويحتجون : ألم يعطوا لك عنوان المنزل ؟تشيع الجنازة :
فاستدار واقترب منهم دون أن يقول شيئًا ، منتظرًا أن يفتحوا الباب الخلفي ، ويدفعوا التابوت دفعًا إلى العربة ، ومضت العربة في خطوات بطيئة كما جاءت ، أما هو فقد وضع رجله فوق غطاء العربة ، وسحب قبعته فوق أنفه ، العربة كانت عارية لا تزينها أوشحة أو زهور ، وخلفها مرافقة واحدة وضعت خمار على وجهها ، وارتدت ثوبًا غامقًا ووضعت على كتفيها مظلة ذات لون فاتح تحت أشعة الشمس ، إنها تشيع الميت ، وقد نكست رأسها استحياء وخجلاً من هذه الجنازة التي تسير فيها وحيدة ، أكثر منها حزنًا على الراحل .البقال والمشيعة الوحيدة :
روزي جولة ممتعة ، هتف بذلك البقال الذي خرج من جديد من دكانه ، وأردف التحية بابتسامة غير لائقة ، وهو يهز رأسه بطريقة منافية للذوق ، والتفتت إليه المشيعة الوحيدة من تحت الخمار ، ورفعت يدها تحييه بقفازها النصفي ثم أنزلتها لترفع ذيل ثوبها ، وتريه حذاءها العالي ، إنها تملك قفازًا ومظلة على الأقل .وفاء الخادمة روزيتا :
ومن نوافذ إحدى العمارات ، قال أحد الجيران : يا له من مسكين ، سوربير نارد ، لقد مات كالكلب ، أما صاحب الدكان فظل يسخر ، وصاحت عجوز من احدى النوافذ : أستاذ تشيعه خادمته !.. كان صدى تلك الأصوات يتردد بقوة ، في الشارع الهادي ، وقبل أن يأخذ السائق اتجاهه فكر أن يقترح على المشيعة استئجار عربة حتى يسرعا في الوصول إلى المقبرة ، طالما أنه لا يأتي أحد للتشييع سواها .وفي هذه الساعة ، وتحت تلك الشمس الحارقة ، لكن روزيتا هزت رأسها بالنفي ، وأقسمت انها سترافق سيدها مشيًا على الأقدام حتى المقبرة في شارع سان لورنزو !موكب جنائزي فريد :
قال لها : وما جدوى القسم ؟ هل يراك سيدك ؟ فقالت : لا إنه مجرد قسم ، أجابها : وأنا سأدفع لك ثمن استئجار العربة التي ستوصك للمقبرة .. قالت له : لا إنه قسم ، صبر السائق واستسلم ، وأخذ يشق الطريق ، واضعًا في اعتباره الانتباه لحركة المرور الكبيرة ، فلا أحد سوف يحترم هذا الموكب الجنائزي الفريد ، وما كاد يصل من ميدان بربريني حتى مال إلى أحد الشوارع المتفرعة عنه ، ووضع رجله فوق غطاء العجلة ، واستسلم من جديد للنوم واضعًا قبعته فوق أنفه ، فان الخيول تعرف الطريق .ذهول :
كان عدد قليل من المارة ، يستغرب نوم السائق فوق عربة الموتى ، الميت ينام في ظلام التابوت البارد ، والسائق ينام في حر الشمس ، ثم هذه المشيعة الوحيدة بالمظلة الفاتحة ، والخمار فوق وجهها ، كان منظر الموكب الصامت في مثل هذه الساعة المكتظة يثير الاستغراب .ليست هذه الطريقة التي ينقل بها الميت ، للعالم الآخر سواء في اختيار اليوم او الساعة أو الفصل ، يبدو أن الميت تعمد ألا يعطي للموت مظهر جدي ملائم ، ويبدو أن السائق على حق في تصرفه واستسلامه للنوم !الغريب :
وظل السائق مستغرقًا في النوم حتى شارع لورنزوا ، وبعد اجتياز الطريق الصاعد ، أخذت الخيول تسرع الصيد نحو المقبرة ، وهنا استيقظ السائق فوقعت عينه على سيد يقف على يمين الرصيف ، كان ذا لحية ، يضع نظاره سوداء على عينيه نحيفًا ، يرتدي ثوبًا رماديًا مشدودًا على جسده .وما كاد السائق يبصره حتى رفع القبعة عن عينيه واعتدل في جلسته ، وقبل أن يسترد وعيه كان ذلك السيد قد هجم على الخيول وأمسك باللجام وأوقفها ، وهو يلوح بيديه ويهدد ، وكان يصرخ ويلعن ويشتم ، ويكاد يرمي بيديه إذ لم يكن له شيء يرمي به .الشرطي والسائق:
أتشير إليّ أنا ، أيها الملعون الوضيع ؟ أتشير إلى أبي أسرة ، أبي ثمانية أطفال يا لئيم ؟ وأسرع المارة وأصحاب المتاجر يتجمعون حول العربة ، وأطل الجيران من نوافذهم ، وهرع عدد من الفضوليين نحو الزحام ، وأخذوا يتساءلون ماذا حدث ؟ ، لا أدري ؟ ، هل هناك ميت ؟ ، يسجلون له مخالفة ، للميت ! ، للسائق ؟وظل الرجل يصرخ ويثور قرب واجهة المقاهي حيث سحبه الناس ، ولكن أحدًا لم يستطيع أن يفهم ، سبب هذه الثورة والانفعال ، وفوق العربة كان السائق لمتهالك يرفع قبعته ويجيب على الشرطي الذي كان يسجل الملاحظات في دفتره الصغير .من أجل تلك الإشارة البسيطة :
ثم تحركت العربة ، وسط الجمهور الذي أخذ في افساح الطريق ، ولكن ما كاد أحد العابثين يشاهد تلك المشيعة الوحيدة ، بمظلتها وخمارها الأسود ، حتى صفر لها : ما الذي حدث ؟ .. أجابت : لا شيء ذهول بسيط ، سائق كان لثلاثة أيام مضت ، يسوق احدى عربات الأجرة وقد ضربته الشمس .فاستيقظ فجأة ونسي أنه يسوق عربة الموتى ، وبدا له أنه مازال يعمل فوق عربة الأجرة ، وقد اعتاد منذ أعوام طويلة أن يدعو الناس إلى استخدام عربته وتأجيرها ، وحينما أبصر ذلك السيد يقف على الرصيف ويحدق فيه ، أشار إليه بإصبعه أن يتفضل بالصعود !! ومن أجل تلك الإشارة البسيطة ، كانت ثورة هذا السيد وهياجه .