في وسط نخيل المملكة ، وتحت شمسها الساطعة تكثر الألسنة المفوهة ، والأيدي الماهرة ، التي تستطيع حياكة الكلمات كثوب من اللؤلؤ المتراصة حباته بدقة ، وإتقان ، تزخر المملكة بالعديد من الشعراء والمؤرخين الذين نظموا شعر ، ودونوا سيرة البلدان والزعماء ، ومن لهم صدى في تاريخ الأمم على مر العصور ، ولعل من أبرزهم مؤرخ المدينة النبوية عبيد مدني ، والذي خلف ما يقرب لاثنا عشر مؤلفًا في تاريخ مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام .النشأة والولادة :
ولد السيد عبيد بن عبد الله بن محمد مدني عام 1324هـ ، بالمدينة المنورة لأسرة من الأعيان حيث كان جده السيد محمد مدني قاضي المدينة ، وأمينا لديوان المحكمة ، وهو الذي بنى قصر الصالحية بالشونة .أما عن أبيه عبيد فكان من رجال الأعمال البارزين ، وله استثمارات كثيرة ، وشهيرة من أهما أحد الفنادق الكبيرة التي ارتادها القادة والزعماء في ذلك الوقت ، وكان أبوه رجلًا خيرًا معطاءً ، ذكره المؤرخون في أعمال الخير ، والورع ، ولكنه سرعان ما مات بعد ولادة عبيد بسبع سنوات .نشأ عبيد يتيما في منزل والده ، وقد عوضته والدته رحمها الله عن غياب الأب ، فكانت الوالدة والوالد ، وعكفت على تعليمه وتربيته ، حتى نشأ محبا للعلم ، عاكفًا عليه ، واتجه للتدوين والبحث العلمي بالإضافة إلى إدارته لأعمال أسرته عوضًا عن والده رحمة الله عليه ، والتي لم تقطعه عن اهتماماته العلمية .الدراسة والتعليم :
بدأ السيد عبيد دراسته بالمدرسة الفيصلية ثم انتقل منها إلى المدرسة الراقية بالمدينة المنورة ، ولم يستمر فيها سوى بضعة شهور ، بعدها انتقل للدراسة بالحرم المكي الشريف ، وتتلمذ على يد الشيخ محمد الطيب الأنصاري عام 1327هـ ، وعنى بدراسة الأدب والتبحر فيه ، وقد ساعدته مكتبة والده الراحل كثيرًا بما تضمه بين جدرانها من أمهات الكتب .ومن نجاحاته أيضا أنه عين عضوًا في مجلس الشورى ، وفي كثير من اللجان الرسمية ، وكانت تربطه صلة وثيقة بالمؤسس وأبنائه سعود وفيصل ، وقد عاصر عبيد في حياته ثلاثة عهود مختلفة ساعدته على التأريخ الصحيح ، حيث أدرك أواخر العصر العثماني في المدينة المنورة ثم الحكم الهاشمي ، ثم عاش بقية حياته في ظل حكم آل سعود .الأعمال والوظائف :
التحق السيد عبيد بالعديد من الأعمال الحكومية الرسمية ، على الرغم من انشغاله بإدارة أعمال والده ، فقد عين عضوًا بالمجلس الإداري بالمدينة المنورة ، وعضو بوفد المؤتمر الوطني بمكة المكرمة عام 1350هـ بديلًا عن الأستاذ سعود دشيشة ثم مديرًا للأوقاف ، ووصل إلى مجلس الشورى حتى أحيل للتقاعد عام 1373هـأما عن أعماله الأدبية ، فقد ساهم في تأسيس صحيفة المدينة ، ومجلة المنهل ، وقد عرف السيد عبيد رحمه الله بإنتاجه الأدبي الغزير ؛ حيث يعد من أهم رواد الأدب الحديث بالمدينة المنورة ، وقد ردد الكثيرين قصائده ، والتي كانت في غاية الروعة والبيان ، ويسهل حفظها وتناقلها بين الأجيال ، وكان رحمه الله متنقلًا بعلمه وشعره يطوف البلاد ، ويبادل شعراءها بمخزون الكلام ، فيسمعون منه ، ويسمع منهم .تميز شعره بالمتانة والوضوح من أهم أعماله المدنيات الكبرى ، والمدنيات الصغرى ، وكلاهما في الشعر ، أما في التأريخ فله كتب ضخم عن تاريخ المدينة المنورة أخرجه في ستة مجلدات ، وألف كتابًا أخر بعنوان تاريخ مساجد المدينة جمع به المعلومات الثرية عن تلك المساجد ، وأصولها التاريخية ، كما أفرد مؤلفا خاصا بتاريخ المسجد النبوي الشريف.الوفاة والرحيل :
توفي السيد عبيد بالقاهرة عام 1396هـ ، ونقل جثمانه ليرقد بالمدينة المنورة في بقيع الغرقد ، وكان رحمه الله حريصًا لأخر عمره على تعليم أبنائه ، وتسليحهم بالعلم الكثيف حتى أن معظمهم تقلد أعلى المناصب في الدولة مثل معالي الدكتور نزار عبيد وزير الشئون الخارجية بالدولة ، ومعالي الدكتور غازي عبيد مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، ورئيس مجلس إدارة صحيفة المدينة.