غامضون يتمتعون بقوى خارقة و يتحركون بخفة و رشاقة تحت جنح الظلام للبحث عن ضحاياهم. يحبون الدماء و الجنس و لديهم أحيانا حس الدعابة , هذه هي صورة مصاصي الدماء كما تصورها أفلام الرعب الحديثة حتى غدا مصاص الدماء لا يخيف أحدا بل على العكس تحول إلى شخصية محببة تتجسد دائما في صورة شاب غامض وسيم أو في لباس حسناء رشيقة تستخدم مفاتن جسدها كطعم لاصطياد ضحاياها. لكن هذه الصورة النمطية التي رسمتها السينما الحديثة لمصاصي الدماء تختلف كليا عن الصورة التي كانت مرسومة في مخيلة الناس البسطاء خلال القرون الخوالي حيث راجت آنذاك قصص الموتى الإحياء الذين يمتصون أرواح ضحاياهم خلال الليل ثم يعودون إلى قبورهم قبل بزوغ الشمس , و قد بذل الأهالي الخائفون , كما في قصتنا هذه , كل ما في وسعهم للتخلص من تلك الأرواح الشريرة.
عندما نبشوا قبرها وجدوا جثتها سليمة تماما كأنها ماتت توا
هناك الكثير من المخلوقات المرعبة في فلكلور الشعوب , بعضها أصبح نسيا منسيا بمرور الزمن و تنامي وعي الناس و ثقافتهم فيما نال بعضها الأخر قسطا كبيرا من الشهرة بفضل ظهور المطبوعات الحديثة و بزوغ عصر السينما فأصبحت هذه المخلوقات جزءا لا يتجزأ من ثقافة الرعب العالمية. وقد تكون شخصية مصاص الدماء هي إحدى أكثر الشخصيات المرعبة شهرة في هذا المجال , فهي شخصية امتزج فيها الخوف بالغموض و الإثارة بالإغراء فأصبحت محببة إلى القلوب و صار لها عشاقها و مريدوها في جميع أنحاء العالم , بل أصبح هناك اعتقاد لدى بعض الناس بأن هناك مصاصو دماء حقيقيين وأنهم حقا يعيشون متخفين بيننا يتحينون الفرص للانقضاض على طرائدهم البشرية. و ربما تكون أنت أيضا عزيزي القارئ قد تساءلت مع نفسك حول حقيقة شخصية مصاص الدماء , أين نشأت ؟ وهل هناك سند تاريخي أو قصص حقيقية تؤيد وجودها ؟.
أن شخصية مصاص الدماء (Vampire
موجودة في فلكلور و تراث معظم الشعوب الأوربية تحت مسميات مختلفة إلا ان منطقة البلقان و شرق أوربا تعتبر من أكثر الأمكنة التي تجذر إيمان الناس فيها بوجود مصاصي الدماء , و ربما يكون لتاريخ المنطقة الدموي الحافل بالمجازر والأوبئة و الجهل و الفقر المدقع الدور الأكبر في توفير البيئة الأكثر ملائمة لنمو و انتشار الخرافات عن هذه المخلوقات المرعبة التي غالبا ما كان يلقى على عاتقها مسؤولية الإحداث المؤلمة التي كانت تصيب الناس هناك و ما أكثرها. و من هذه البيئة البائسة أيضا استقى الروائي الايرلندي برام ستوكر روايته الشهيرة "دراكولا" التي تعتبر الأساس و المنبع الذي بنيت عليه شخصية مصاص الدماء الحديثة والتي غالبا ما نشاهدها على الشاشة , فهذه الرواية تعتبر مزيجا بين سيرة عدة شخصيات تاريخية حقيقية و بين مجموعة من الخرافات المحلية التي تداولها الناس لقرون , فالكونت فلاد الرابع الملقب بدراكولا هو شخصية حقيقية عاشت في رومانيا واشتهرت بدمويتها و قسوتها المنقطعة النظير , و في بلغاريا المجاورة اشتهرت الكونتيسة إليزابيث باثوري التي قيل أنها كانت تقتل الفتيات الشابات و تستحم في دمائهن , كما كانت هناك مجموعة كبيرة من الأساطير حول العالم تتحدث عن الموتى الذين تحولوا إلى مصاصي دماء فاخذوا يهاجمون الناس و يقتلوهم. و إحدى هذه القصص الشهيرة هي قصة الشابة الأمريكية ميرسي براون التي يقال ان قصاصة من الجريدة التي نشرت قصتها وجدت ضمن أورق الروائي برام ستوكر بعد موته , أي أنها كانت إحدى المصادر التي استلهم منها تأليف روايته الشهيرة.
ميرسي براون (Mercy Brown
أو لانا كما كان أصدقائها ينادونها , هي فتاة جميلة ولدت عام 1873 , كان والدها مزارعا و مربيا للخيول اسمه جورج براون وكانت عائلته تتكون من زوجته ماري إضافة إلى خمس بنات و صبي واحد عاشوا جميعا في منزل ريفي متواضع يقع ضمن مزرعتهم الصغيرة الواقعة خارج مدينة ايكستر في ولاية رود ايسلند الأمريكية. كانت العائلة مثلها مثل اغلب عوائل الريف تعيش حياة بسيطة و هادئة لا يعكر صفوها شيء و لا يكسر رتابتها سوى الذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد والالتقاء ببقية الجيران.
لكن هؤلاء المزارعين البسطاء لم يكونوا يعلمون بما يخبئه لهم القدر من مصائب ستحيل قادم أيامهم إلى أوقات كالحة السواد , ففي ذاك الزمان أي في أواخر القرن التاسع عشر , كان مرض السل الذي لم يكن له أي علاج آنذاك ينتشر بشكل وبائي في إنحاء واسعة من الولايات المتحدة حاصدا في طريقه آلاف الأرواح.
وفي عام 1883 حدثت أول إصابة بالمرض داخل عائلة جورج بروان إذ أخذت زوجته ماري تسعل بشدة و كان سعالها مصحوبا بالدم و هذه هي أول أعراض مرض السل الذي سرعان ما يتطور إلى حمى و الآم في الصدر و صعوبة في التنفس إضافة إلى الهزال و الوهن. و تختلف مقاومة الناس للمرض من شخص إلى آخر فالبعض يموتون خلال عدة أشهر فقط فيما قد تستمر معاناة البعض الآخر إلى عدة سنوات و قد كانت ماري براون من النوع الأخير إذ قاومت المرض لقرابة الثلاث سنوات وماتت عام 1886 , و خلال سنوات مرضها الطويلة نقلت الأم ماري البكتيريا المسببة للمرض إلى بقية أفراد العائلة فأصيبت الابنة الكبرى و اسمها ماري أيضا بالمرض و ماتت بعد عامين من المعاناة في عام 1888. ورغم خسارته الفادحة إلا إن المصيبة الأشد وقعا على الأب جورج براون كانت إصابة ابنه الوحيد أدوين بالمرض عام 1890 لذلك بذل الغالي و النفيس لأرسله إلى إحدى المصحات خارج الولاية على أمل أن يشفيه المناخ المعتدل و الطعام الجيد. ثم لم تمض مدة طويلة حتى أصيبت ابنته ميرسي ذات التسعة عشر ربيعا بالمرض أيضا , وعلى العكس من أمها و شقيقتها فأن ميرسي سرعان ما فارقت الحياة خلال أشهر قليلة وذلك في شتاء عام 1892 , و لأن الصقيع و البرد كان قد أدى إلى تجمد التربة في ولاية رود ايسلند لذلك أصبح الحفر فيها أمرا غاية في الصعوبة و لهذا السبب فقد تم دفن تابوت ميرسي براون موقتا داخل قبو الكنيسة بانتظار حلول الصيف لكي تدفن في المقبرة بشكل دائم.
في أواخر عام 1892 عاد الابن أدوين إلى منزل والده. لقد عاد ليموت في بيت العائلة إذ فشل العلاج في شفائه و اخبره الأطباء أن أيامه في الدنيا معدودة. واخذ جيران جورج براون و أصدقائه يتأسفون على ما الم به من مصائب كما اخذوا يتهامسون سرا عن احتمال وجود مصاص دماء في عائلته إذ كان الناس في ذلك الزمان يعتقدون أن الميت قد يتحول أحيانا إلى مصاص دماء ويقوم بالتردد على المنزل الذي كان يعيش فيه و يبدأ بمص الحياة من أجساد أفراد عائلته الأصحاء واحدا بعد الأخر فيصيبهم بالهزال و المرض , و مما عزز هذا الاعتقاد لدى الناس هو المدة الطويلة التي يستغرقها مرض السل في قتل ضحاياه و ما يصيبهم خلال هذه المدة من الهزال و الضعف و الشحوب كأنما هناك شيء ما يستل الحياة من أجسادهم بالتدريج. وقد ازدادت قناعة جورج بروان بقصة مصاص الدماء بعد ان استيقظ ابنه أدوين مرعوبا في إحدى الليالي و اخبره بأنه شاهد في حلمه شبح أخته الميتة ميرسي وقد أحاطت بجسده و أخذت تمتص روحه , وبعد هذه الحادثة صمم جورج على القيام بنبش قبر زوجته و ابنتيه لمعرفة أيهم تحولت إلى مصاص دماء.
في احد أيام الباردة و الغائمة من شهر آذار
مارس 1892 توجه جورج براون بمعية بعض أصدقائه و جيرانه إلى المقبرة للتخلص من لعنة مصاص الدماء أملا في إنقاذ حياة ابنه أدوين , في البدء نبشوا قبر الأم ماري , و لأن قرابة العشر سنوات كانت قد مضت على موتها لذلك فأنها كانت قد تحولت إلى مجرد عظام , ثم نبشوا قبر البنت الكبرى ليجدوا أن جثتها هي الأخرى قد تفسخت تماما , وأخيرا نبشوا القبر المؤقت للابنة ميرسي التي كان قد مضى على موتها شهران فقط ليفاجئوا بأن جثتها كانت سليمة تماما كأنها ماتت توا و هو الأمر الذي أثار دهشتهم كما لاحظوا بقعا من الدم كانت تغطي فمها لذلك أيقنوا بأنها ضالتهم التي كانوا يبحثون عنها و أنها تحولت حقا إلى مصاصة دماء. وحسب معتقدات ذلك الزمان فأنه للقضاء على مصاص الدماء كان يجب إخراج قلبه و إحراقه , و لأن جورج لم يجد القوة و الجرأة على فعل ذلك بجثة ابنته لذلك قام احد أصدقائه بشق صدرها ثم انتزع قلبها بيده , و لشدة دهشة الجميع فقد انفجر الدم من عروق القلب و شرايينه و تدفق بغزارة كأنما كان لايزال ينبض بالحياة وهو الأمر الذي زاد من قناعتهم في أن ميرسي هي مصاصة دماء حقيقية فقاموا بانتزاع رئتها أيضا و وضعوها مع القلب على صخرة جرداء ثم أشعلوا النار فيهما حتى تحولا إلى رماد , و في المساء عاد جورج براون إلى منزله حاملا معه رماد قلب ابنته حيث قام بمزجه مع الماء و سقاه لأبنه المريض أدوين لأن الاعتقاد الذي كان سائدا آنذاك هو أن شرب مزيج رماد قلب مصاص الدماء مع الماء يمكن أن يشفي ضحاياه , لكن لسوء حظ الأب جورج فأن هذا العلاج السحري لم ينفع مع أدوين الذي لم يلبث أن فارق الحياة بعد شهرين فقط. لكن رغم وفاة أدوين فأن جيران جورج براون و رفاقه لم يعترفوا بخطأ ما قاموا به من تدنيس لجثة ميرسي بل على العكس زادت قناعتهم بصحة ما فعلوه واستدلوا على ذلك في أن أي شخص آخر من عائلة جورج براون لم يصاب بمرض السل بعد ذلك. و منذ ذلك الحين و لأكثر من قرن من الزمان اشتهرت قصة ميرسي براون خاصة بعد أن أضيفت إلى قصتها الكثير من الأكاذيب والخرافات فأصبح قبرها مزارا للعديد من عاشقي قصص مصاصي الدماء و كانوا يضعون الزهور السوداء عند قبرها , كما قام احدهم عام 1992 بسرقة شاهد القبر.
رغم إيمان بعض الناس بأن ميرسي براون كانت مصاصة دماء حقيقية إلا إن الأطباء لهم رأي آخر في القضية , فهؤلاء لا يؤمنون قطعا بوجود مصاصي الدماء و يدحضون جميع القصص التي تتحدث عنهم , وبالنسبة إلى قصة ميرسي براون فهم يعتقدون إن السبب الحقيقي في عدم ظهور أي من علامات التحلل على جثتها يعود بالأساس إلى البرد القارص لشتاء ولاية رود ايسلند و الذي حول قبو الكنيسة التي دفنت به الجثة مؤقتا إلى ما يشبه الثلاجة مما ساهم بشكل كبير في حفظها بصورة جيدة و سليمة رغم مرور شهرين على وفاتها , أما سبب وجود بقع الدم على الفم فيعزوه الأطباء إلى آثار مرض السل فمن معروف أن مرضى السل يعانون من امتلاء رئاتهم بالدم و لذلك هم ينفثوه إلى الخارج أثناء سعالهم فتتلوث به شفاههم و أطراف أفواههم.
أما علماء الاجتماع فيعزون إيمان الناس آنذاك بمصاصي الدماء إلى كونه التفسير الوحيد المقنع للأمراض و الأوبئة التي كانت تصيبهم , فهؤلاء الذين كانوا يفقدون أعزائهم واحدا بعد الأخر من دون أن يجدوا تفسيرا لهذا الموت الداهم و من دون أن يتمكنوا من عمل أي شيء لمساعدتهم كانوا بحاجة إلى شيء ما يضعون اللوم عليه فيما أصابهم فاخترعوا لهذا الغرض أنواع الأرواح الشيطانية و المخلوقات الشريرة. أن الأمر برمته كان أشبه بهستيريا جماعية تصيب الناس خاصة بعد حدوث الكوارث و الأزمات (في العصر الحديث يتجه الناس إلى الدين للتنفيس عن احباطاتهم) , ففي أوربا مثلا قضت المجاعة الكبرى و الطاعون الأسود على ثلثي سكان القارة العجوز في القرن الرابع عشر فكانت هناك عوائل أبيدت عن بكرة أبيها و أخرى فقدت معظم أفرادها و كرد فعل على هذه النوائب و الخسائر الفادحة التي ألمت بالمجتمع فأن الناس بدءوا يبحثون عن شيء يحملونه وزر مصائبهم و ينفسون به عن غضبهم و خوفهم و بالطبع فقد قد وجدوا ضالتهم في حلقات المجتمع الأضعف و التي لا تتمتع بالحماية فهاجموا اليهود أولا وطاردوهم في كل مكان و أشبعوهم قتلا و حرقا تحت تهمة الحقد على العالم المسيحي و تدبير المكائد لتدميره , ثم اخذوا بعد ذلك يطاردون النساء و يتهمونهن بممارسة السحر فظهرت محاكم التفتيش سيئة الصيت التي راح ضحيتها قرابة المائة ألف امرأة خلال العصور الوسطى , و هكذا و بالتدريج أخذت أساطير و خرافات مصاصي الدماء و المستذئبين تنتشر في تلك المجتمعات الموبوءة بالجهل و الاستبداد و مختلف الإمراض و العاهات النفسية و الجسدية.
إضافة إلى كل ما تقدم فأن الباحثين يعتقدون أن مرض السل بالذات لعب دورا كبيرا في انتشار خرافة مصاصي الدماء و رواجها , فهذا المرض يستنزف ضحاياه بالتدريج فيصيبهم بالهزال و تغور أعينهم في محاجرها و تشحب جلودهم حتى يصبحون حساسين تجاه الضوء و غالبا ما تكون أفواههم مغطاة بالدماء التي ينفثوها من الرئتين أثناء السعال , و هذه الأعراض المصاحبة للمرض شبيهة إلى درجة كبيرة بأوصاف شخصية مصاص الدماء كما تخيلها الناس في العصور الوسطى.