المستذئبون بين الحقيقة و الخرافة (1
اسطورة قديمة ارتبطت بالذئب , ذلك الحيوان الغريب الذي طالما ادخل عواءه الليلي الخوف إلى قلوب بني البشر فربطته الأساطير و الخرافات بعالم الأشباح و الأرواح و ربما كانت لخفته في الحركة و ظهوره و اختفائه المفاجئ دورا كبيرا في إسباغ هذه الصفات عليه.
في هذه المقالات سنعالج موضوع المستذئب بالتفصيل و سنذكر بعض اشهر الحوادث التي وردت في كتب المؤرخين عنها معتمدين دوما على الحقائق و الوثائق و التحليل العلمي و المنطقي بعيدا عن الاثارة الرخيصة القائمة على الاساطير و الخرافات.
هل هم اشخاص مصابين بأمراض معينة حولتهم الى مستذئبين ؟
الرجل الذئب او المستذئب (Werewolf
هو إنسان يمتلك القدرة على التحول بشكل كامل الى ذئب و يكتسب أثناء ذلك جميع صفات الحيوان الوحشية مع احتفاظه ببعض صفاته البشرية كالنطق مثلا و غالبا ما يتم هذا التحول في الليل و بالخصوص عندما يكون القمر بدرا مكتملا و يستمر حتى بزوغ الشمس حيث يعود المستذئب الى شكله البشري و قد اقترن هذا التحول في فلكلور الشعوب بسفك الدماء و التهام البشر و خصوصا الأطفال و النساء.
ربما تكون شخصية المستذئب هي واحدة من أقدم الأساطير التي حيكت حول العلاقة بين الإنسان و الحيوان فقد ورد ذكرها في كتابات الإغريق و الرومان و ازداد الاعتقاد و الإيمان بها في العصور الوسطى حيث كانت أوربا تعيش آنذاك عصور الخرافة و الظلام فانتشرت قصص السحر و الجن و مصاصي الدماء و المستذئبين .. الخ و صارت جزءا لا يتجزأ من فلكلور الشعوب الأوربية لتتحول فيما بعد الى قصص و روايات استحوذت على إعجاب القراء و لتستمد منها السينما واحدة من أشهر شخصيات الرعب و التي أصبحت مصاحبة في اغلب الأحيان لشخصية الرعب الأشهر و هي شخصية مصاص الدماء (Vampire ). و هذه الروايات و الأفلام جعلت الكثير من الناس يتساءلون حول صحة هذه الأسطورة او أصلها و مصدرها و خاصة انها ارتبطت بالذئب , ذلك الحيوان الغريب الذي طالما ادخل عواءه الليلي الخوف إلى قلوب بني البشر فربطته الأساطير و الخرافات بعالم الأشباح و الأرواح و ربما كانت لخفته في الحركة و ظهوره و اختفائه المفاجئ دورا كبيرا في إسباغ هذه الصفات عليه. و مما أثار دهشتنا أثناء بحثنا عن مصادر حول الموضوع هو ان البعض يدعي ان هناك أمراض نادرة تصيب الإنسان فتحوله الى مستذئب او مصاص دماء مستمدين آرائهم هذه من بعض النظريات الطبية , التي سنتطرق لها لاحقا , و التي تحاول شرح و تفسير أصل الأسطورة و ليس إثبات صحتها , فلا يوجد مرض في العالم يجعل المريض يتحول الى ذئب يهيم وجدا بأكل لحوم البشر , و كيف لمريض مرهق ان يتجول بخفة و سرعة في الغابات ليطارد و يقتنص فرائسه ؟!! و أي مرض هذا الذي يجعل الإنسان يكتفي بشرب الدماء ؟!! و هل يحتاج مص دماء البشر الى مرض؟ فليأتوا الى بلداننا و يروا كيف يمص البعض دمائنا جهارا نهارا و بدون أي رادع او خجل !!.
و الجدير بالذكر ان اغلب شعوب و حضارات العالم عرفت مثل هذه الأساطير المرتبطة بتحول الإنسان جسديا من شكل الى اخر , و في فلكلورنا العربي هناك الكثير من الشخصيات المشابهة لشخصية المستذئب الأوربية لعل أشهرها هي خرافة (السعلاة) او السعلوة كما تسمى باللهجات الدارجة حيث عرفها العرب في الجاهلية و بعد الإسلام و صوروها على شكل مخلوق كث الشعر مخيف الشكل و لكنها تملك القابلية على التحول الى شكل امرأة رائعة الجمال حيث تقوم بإغواء المسافرين و تنتهز الفرصة لقتلهم و أكلهم و لها أخبار كثيرة في كتب المؤرخون العرب. كما عرف الهنود الحمر أسطورة الرجل الذئب و اشتهرت في فلكلور القبائل المنتشرة بشكل خاص في أمريكا الشمالية.
صفات المستذئب
كان الناس يعتقدون بأن للمستذئب صفات معينة يمكنهم عن طريقها التعرف عليه , منها ان تكون حواجبه معقودة فوق الأنف و تكون أظافره حادة و مخلبية الشكل و ان تكون مشيته غريبة تتميز بخطوات متباعدة و متسرعة , و من العلامات الأخرى هي الشعر الأحمر و وجود شعر في باطن الكف و كذلك ظهور علامات الاهتياج الشديد عند رؤيته لشرائح اللحم النيئ , و من الطرق المشهورة في كشف المستذئب أو المتهم بذلك , هي أن يقوموا بعمل جرح عميق في جسم المتهم و ينظروا الى ما تحت الجلد فإذا ظهر فرو أو شعر اسود تيقنوا بأن المتهم هو مستذئب حقيقي , و كانوا يشكون على وجه الخصوص بالأشخاص المولودون في الـ 25 من ديسمبر و كذلك بأولئك الذين يكون ترتيبهم السابع من بين الأطفال في العائلة.
أما العلامات المميزة لمعرفة الرجل الذئب عندما يكون متقمصا لشكله الحيواني فهي عدم وجود الذيل و إصدار أصوات هي اقرب الى صوت البشر كما إن عيونه تكون أشبه بعيون البشر منها الى عيون الذئاب و عند عودته الى شكله الإنساني مرة أخرى فأنه يشعر بتعب و إرهاق شديد.
و بالنسبة لغذاء المستذئب فهو يصطاد و يلتهم الحيوانات البرية و كذلك اللحم البشري و خاصة لحوم الأطفال الصغار و النساء و أحيانا لحوم الجثث المدفونة في المقابر.
و هناك اعتقاد بأن جثة المستذئب يجب ان تحرق و لا تدفن لأن الدفن سيحولها الى مصاص دماء.
كيف يصبح الشخص مستذئبا ؟
هناك عدة طرق للتحول الى مستذئب , ربما يكون أشهرها , هي التعرض للعض من قبل مستذئب أخر و التي شاعت عبر الروايات و الافلام الحديثة التي تناولت شخصية الرجل الذئب و هي في الحقيقة لم تكن ضمن الاسطورة القديمة عن المستذئب و انما اضيفت اليها في بدايات القرن المنصرم , و هناك طرق أخرى ذكرت في فلكلور الشعوب , من ابسطها هي ان يتعرى الشخص المراد تحويله و يقوم بربط حزام جلدي عريض من فرو الذئاب على جسمه , و من الطرق الأخرى هي شرب الماء المتجمع في الحفر الصغيرة لأثار أقدام الذئاب او شرب الماء من مصدر تستخدمه الذئاب عادة للشرب.
و ذكرت بعض المصادر القديمة بأن نوم الشخص في الهواء الطلق في ليلة من ليالي الصيف يكون القمر فيها بدرا مكتملا و تعريض وجهه لضوئه لمدة طويلة يمكن أن يحوله الى مستذئب.
و هناك وصفات سحرية ذكرت في بعض كتب السحر لتحويل الإنسان الى مستذئب تعتمد على الأعشاب و على القيام بأمور سحرية معينة , إلا ان الفكرة العامة هي ان الشخص المراد تحويله يجب ان تكون لديه القابلية للتحول الى مستذئب بالفطرة عن طريق مجموعة من المواصفات التي يجب ان تتوفر فيه , من أشهرها , ان يكون من الأشخاص المولودون في الـ 25 من ديسمبر او من الأطفال الذين يكون ترتيبهم السابع بين أخوتهم و أخواتهم , حيث انه وفقا للمعتقدات السائدة آنذاك تتحول الفتاة الى ساحرة و الصبي الى مستذئب , كما ان الأطفال المولودون مع ظهور قمر جديد او المصابون بالصرع هم الأقرب الى ان يكونوا مستذئبين عند البلوغ.
و من الناحية الدينية كان ينظر الى المستذئبين على انهم أشخاص تعرضوا الى اللعنة الإلهية نتيجة لآثام كبيرة اقترفوها في حياتهم و أنهم من صنائع الشيطان و وسائله لبث الرعب و الخوف في نفوس البشر.
حقيقة ام خيال ؟
هناك الكثير من الأمور في هذا العالم التي ينظر إليها على إنها مجرد أساطير و خرافات لا أساس لها من الصحة و لكن العلم الحديث بدء يفكر جديا في دراستها , ليس لإثبات صحتها بالطبع , و لكن لمعرفة المصدر الحقيقي لنشوء هذه الأسطورة او الخرافة و العوامل التي ساعدت على انتشارها و ترسيخ الاعتقاد بها.
الاستنتاج السائد بين الباحثين و العلماء اليوم هو ان الشخصيات الأسطورية المرعبة هي انعكاس لواقع مرعب عاشه الإنسان من دون ان يجد تفسيرا منطقيا له او يتمكن من التثبت من طريقة حدوثه , فمثلا في حالات جرائم القتل المتسلسلة و حوادث أكل لحوم البشر و انتهاك حرمة القبور و الموتى و الجثث المجهولة التي تم العبث بها و تقطيع أجزائها و التي ترمى أحيانا على قارعة الطريق , كل هذه الحوادث لم يكن الانسان يجد تفسيرا منطقيا لها في العصور الوسطى التي كان يسودها التخلف و الجهل و كان الإنسان فيها يرتاب بكل شيء حوله بسبب الحياة القاسية التي كان يعيشها و المليئة بالحروب و مناظر الموت و الدم و النهب و السلب , فعلى سبيل المثال كان الإنسان في تلك الأزمان ينظر الى الأمراض على انها شكل من أشكال المس الشيطاني و يفسر النكبات التي تحل به كالأوبئة او المجاعات على انها عقاب الهي , و بالطبع هكذا عقلية عندما تتعامل مع مريض نفسي , على سبيل المثال , يتحول الى قاتل متسلسل و يقوم بعدة جرائم قتل متوحشة يمارس فيها ساديته و عقده , لا يمكنه إلا ان يفسر الأمر على ان هذا الشخص هو شخص غير طبيعي و يمتلك قوى سحرية شريرة خارقة , فاختفاء عدة أشخاص من قرية واحدة و اكتشاف جثثهم بعد مدة و قد تم التمثيل بها سيتم ربطه مباشرة مع مصاصي الدماء و المستذئبين و الغول و الجن و الأشباح .. الخ , و لا ننسى اننا نتكلم عن عصور لم يكن يتواجد فيها محققين شرطة و مختبرات للأدلة الجنائية و أجهزة أمنية متطورة و مدربة , بل انه في أحسن الأحوال لم يكن هناك سوى شخص واحد لتمثيل الدولة و هو في الغالب الأعم إنسان امي و جاهل لا يقل إيمانا بالخرافات عن الآخرين و لا هم له سوى جمع الضرائب و المكوس للإقطاعي او الملك.
و في ذلك العالم الموحش و المظلم ظهرت معظم الأساطير المرعبة التي نتداولها اليوم و ارتبط اغلبها مع الليل , ففي ذلك الزمان لم يكن هناك مصابيح إضاءة كالمتوفرة اليوم و لا أجهزة ترفيه كالحاسوب و التلفزيون , فكان الليل طويلا و مظلما , و لهذا نلاحظ ارتباط اغلب الشخصيات المرعبة بالليل و الظلام و بمخلوقات ليلية كالخفافيش و الذئاب.
من التفسيرات العلمية لأسطورة المستذئبين هي وجهة نظر طبية , حيث ان بعض الأطباء و المختصين في تاريخ الأمراض يعودون بشخصية المستذئب الى عوامل مرضية , فبعض الأمراض النادرة مثل مرض البروفيريا (Porphyria
تصاحب بعض أنواعه أعراض مثل الالتهابات الجلدية و ازدياد الشعر في مناطق معينة من الجسم و احمرار الأسنان و التحسس الشديد للتعرض الى أشعة الشمس و قد يؤدي بالمريض الى اختلالات نفسية حادة , لهذا يعتقد بعض الباحثين بأن الكتابات التاريخية عن المستذئبين هي في الحقيقة وصف لمرضى مصابين بهذا المرض النادر , الا ان هذه النظرية تعرضت الى انتقادات حادة منها ان الأوصاف التي ذكرها المؤرخون تصف تحول الإنسان الى ذئب متكامل الشكل و القوام و ليس مجرد أعراض لمرض جلدي معروف و مشخص منذ القدم , كما ان البعض يبالغ جدا في وصف أعراض هذا المرض كما فراءت ذلك شخصيا في عدة مواقع عربية و بدون أي احترام لمشاعر المصابين بالمرض , و منها ان المريض يتحول الى مجنون كليا و يتقمص شخصية الذئب و يأكل اللحم النيئ و يبدأ بالعويل عند اكتمال القمر!! .
هناك مجموعة اخرى من الباحثين يعتقدون بأن مصدر أسطورة المستذئب هو مرض (Hypertrichosis
و هو نمو كثيف و غير طبيعي للشعر على جسم الإنسان و قد يصيب كلا الجنسين و ينتج عنه اكتساء أجزاء من الوجه و الجسم بطبقة كثيفة من الشعر بحيث يصبح اقرب الى فرو الحيوانات , و لكن الندرة الشديدة لهذا المرض جعلت الباحثون يشككون في ان يكون مصدر أسطورة المستذئب و التي ذكرت بأعداد كبيرة في العصور الوسطى.
و هناك ايضا أمراض أخرى حاول العلماء ربطها مع خرافة الرجل الذئب لكنها تبقى مجرد نظريات ليس بالإمكان إثباتها بشكل كامل.
و رغم جميع النظريات و الأبحاث يبقى هناك الكثير من الناس يتسألون , هل هناك حقا مستذئبين ؟ هل هناك مصاصو دماء ؟ هل هناك غول و سعلاة و تنين ؟ المعتقدون بالسحر و الغيبيات يؤكدون وجود هذه المخلوقات اما العلماء و الباحثون و المثقفون عموما فيضحكون و يسخرون عند سماع هذه الأسماء. الا ان هذه الدنيا تفاجئنا دوما بأحداث و قصص قد لا نتخيلها و أمور قد لا يستطيع العلم تفسيرها , و يبقى الإنسان نفسه هو لغز الألغاز فالمستذئبون و مصاصو الدماء قد يكونوا مخيفين و يقومون بأعمال وحشية تجعل فرائص الشجعان ترتعد خوفا و هلعا الا أنهم مهما بلغوا من الإسراف في القتل و سفك الدماء فأنهم لن يصلوا الى مدى الوحشية التي يتمتع بها البعض من بنو البشر , فعلى مر العصور جرت معارك و مجازر تم أبادت الآلاف خلالها في أيام و ساعات قلائل و بقسوة منقطعة النظير و هذا ما لا يستطيع أي مستذئب او مصاص دماء القيام به.
في الجزء القادم من هذا البحث سنتطرق الى اشهر القصص الموثقة تاريخيا عن المستذئبين.