قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بإصبعيه السبابة واليمنى
.
وقدوتنا في هذا الكون الفسيح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى صمد وتـحّمل آلام فوق طاقة البشر ،ولم يهتز أو يتزعزع أمام محنــة اليتم عندما فقد أبيه وهو ما زال طفلاً صغيراً لم تمتحنه تجارب الحياة وحكايات البشر ،ثم فقد أمه بعد فترة قصيرة فأصبح وحيداً بلا أب وأم فأواه ربــــــــه وأكرمه وأطعمه فكان هادياً ومبشراً ونذيراً ، فاليتيم ليس الذي يفــــقد أباه وأمه بل اليتيم يتيم الحياة ،يتيم الثقة بالنفس والخوف دائماً من المجــــهول ،اليتيم يتيم القنوط من رحمة الله وعطفه على عبـــاده اليتامى والمساكين .
جائني ذات يوم الفتى أسعد يسألني ماذا يفعل وقد صار هو وأخيه أكـــــــرم وحيدين في الحياة لا سند لهم ولا معين غير رب العالمين .
ولنبدأ القصة من بدايتها ،يقول أسعد : أنا شاب لم أكمل بعد الثامنة عشــرة من عمري ،نشأت في بيت سعيد وكنت طفلاً محبوباً من أبى وأمـــــــي ولي شقيق صغير يصغرني بعامين ذلك هو أكرم .
كنت أنا وشقيقي نعيش معاً وحيدين في شقتنا لإنشغال أبي وأمي بالســــعي وراء لقمة العيش ،فأبي موظف بإحدى الهيئات وأمي موظفة بشركة قطاع عام ،فكانا يغلقان علينا باب الشقة بالمفتاح ويبعدا عن ايدينا كل ما يمكن أن نؤذي به أنفسنا ،وعندما تعود أمي من العمل تأتي إلينا ملهوفة فتجــــــدني ألعب مع أخي أكرم في أمان ، أما أبي فقد كان حنانه يفيض علينا جميعاً أنا وأخي وأمي وعندما يعود من عمله بعد الظهر يسألنا عما فعلنا خلال غيابه ويأكل معنا ويستريح قليلاً ثم يصطحبنا معه إلى قطعة أرض خلاء قريبة من بيتنا ليلعب معنا الكرة
أما في المناسبات فلقد كان أبي يصطحبنا جميــــــعاً إلى الأهرامات والحدائق ونركب معه سيارته القديمة جداً ،وصدقني يا أخي أن أبي لم يضربنا مرة واحدة في حياته ،فقد كان يكفيه أن ينظر إلينا غاضباً
أو في عتاب حتى نعترف بالخطأ ونطلب صفحه ،أما أمي فلقد كانت تضربنا برفق أحياناً إذا أخطأنا فإذا بكينا أسرعت بالبكاء أكثر منّــــــا وصالحتنا بعد قليل .
في هذا الجو الأسري الرائع نشأت أنا وأخي أكرم وأدركت رغم صغر سني كـــــــم تحب أمي أبى وتعتز به وكم يحبها أبي ويقدرها وأدركت أيضــاً إننا وحيدين وسط المجتمع الذي نعيش فيه ،فليس لنا أولاد أعمــــــام أو خالات نزورهم ويزوروننا ،وسألت عن السبب فعرفت أن أهل أبي وأهل أمي يعيشون بعيداً جداً عنّا في أعماق أعماق الصعيد !
ومضت الحياة بنا وادعة جميلة وإلتحق شقيقى أكـــرم بنفس المدرسة التي دخلتها وتلازمنا ليلاً ونهاراً ،ولكني لاحظت بعد فترة أن أمى مرهقة دائمـــاً وتعجز عن القيام بواجباتها المنزلية وفسّر أبي ذلك بأنه قريباً سوف يكـون لنا شقيق ثالث أو شقيقة تشاركنا اللعب والحياة
وبـــــــدأت أساعد أمي في أعمال البيت ،وزاد الإرهاق كثيراً عليها بسبب الحمل ومتاعبه ،وبدأت أرى أبي وهو يغسل لنا الملابس ويطهو الطعام ويقوم بكل أعباء المنزل ،ثـــــــم اقترب موعد الولادة ودخلت أمي المستشفى ولازمها أبي فيها ،ووجــــــدت نفسي أنا وشقيقي أكرم وقد بلغت العاشرة وحيدين كما كنا قبل ذلك داخـــــل الشقة ،وطال غياب أمي في المستشفى وتوقفنا عن الذهاب للمــــــــــدرسة يومين متتاليين لم نغادر الشقة خلالهما ،وفجأة دخل علينا أبـــي مكفهّر الوجه حزين وعرفت على الفور من منظره أن أمــــى إنتقلت إلى رحمة الله
وخلت شقتنا الصغيرة منها ومن حنانها ومن صوتها الجميل ،وعشنا أيامــاً في ذهول وصدمة كبيرة حتى تماسكنا، ومضت بنا الحياة وتعلمت وأنـــا في الثانية عشرة تنظيف البيت ومساعدة أبي فى غسل الملابس وطهو الطعام.
وطالبنا أبي بأن نصمد لمحن الحياة وأن ننجح في دراستنا لكي نسعد أمنــــا في العالم الآخر فتقدمنا في دراستنا عاماً بعد عام وبغير دروس خصوصـية إلا مساعدة أبي لنا ،وفي الصيف كان يصطحبنا أبي لزيارة الأهل في أقصى جنوب الصعيد ،وقد حاول جدي معه كثيراً كي يتزوج إنسانة تتولى رعايتنا لكنه رفض ذلك بشدة وفاء لذكرى أمنا الغالية !
وقال له أنه لن يُدخل عـــلى أولاده من لا يضمن حنانها عليهم ،ومرت الأيام بنا حلوها ومُرها ولاحظت علي أبي أنه قليل الضحك كثير الصمت ورأيته أكثر من مرة يبكي وهــــــــو يصلي فرجوته أن يخرج إلى أصدقاؤه كي يروّح عــــــــن نفسه لكنه رفض قائلاً:إنه ليس متضايقاً من بقائه في البيت معنا ،وأنه يريد أن يتفــــــرغ لنا هذه السنوات القليلة القادمة حتى أحصل على الثانوية العامه وألتــــــــــحق بالجامعة ويطمئن أيضاً على أخي الصغير أكرم وحينئذ سيشعر بأننا قــــــــد وضعنا أقدامن على أول الطريق وسوف يلتفت بـــــعض الشيء إلى حياته بغير خوف علينا من الإنحراف لأننا والحـــــمد لله متدينان ونؤدى الفرائض في وقتها ، وقد حافظنا بفضل الله على عهدنا لأبينا فواصلنا التقــدم في الدراسة وعلّمنا أبي حب الناس وإحترام مشاعرهم ومجاملتهم فـي مناسباتهم المختلفة ،
وكثيراً ما اصطحبنا معه لأداء واجب العــــزاء ،بل أنه كان يأمرنا إذا حدثت حالة وفاة في العمارة التي نسكن فيها أو فى العمارات المجاورة أن نقف طوال النهار في خدمة أهل المتوفي نحمل الكراسي ونلّبي أي طلب يُطلب منّا حتى ينتهي العزاء ويعود آخــــر الليل معنا راضياً عنا ، وفي كل عام حين تأتى ذكرى رحيل أمــــنا كنا نقف جميعاً في المطبخ لنطهو اللحم والأرز ونحشو بهما الأرغفة ونوزعها على فقراء الحي ، أمــا في المناسبات السعيدة للجيران فقد كنا نحـــمل إليهم زجاجات الشربات وصناديق المياه الغازية ونوّزعها على المدعوين ونرّحـــب بأداء أي خدمة ونكنس الشقة بعد إنتهاء المناسبة مع أصحابها وهــم يشكروننا ويثنون على شهامتنا وأبي فخور بنا ويحثنا على بذل المزيد من الجهد لأن الـــمرء يجب أن يكون في عون أخيه كما علّمنا ديننا الحنيف ، وعندمــا وصلت للثانوية العامه وضاعفت من ساعات مذاكرتي أحاطني أبي بحبه واهتمامـه وأعفاني من أعمال البيت ،ومضى شهران من بداية العام الدراسى ثـــــــــم صحوت من النوم فلم أجد أبي في الصالة كالعادة ودخلت عليه غرفة النـــوم فإذا بي أجده جالساً على على قعده بجوار السرير يمسك بالصحيفة في يــده وقد مال رأسه إلى الوراء وفارقت روحه الحياة !!
كان الموقف رهيباً علي وعلى أخي المسكين أكرم ،لقد فقدنا فــجأة أبانا وسندنا الوحيد في الحياة ،وقد ألهمني ربي الصبر والتماسك أمــــــا شقيقي أكرم فقد زاد عويله وإنهار وولول كثيراً فإلتمست لـه العذر لصغر سنه ،
وقتها تجمع حولنا جميع الجيران والأصدقاء ،
الكل يعرض خدمــاته وأقسم الجميع على دعوتنا لبيوتهم إلى أن جاء جـــدي من أقصى الصعيد وعاش معنا فترة من الوقت وجد نفسه بعدها عاجـــزاً عن الإستمرار معنا وعاجزاً عن ضمنا إليه بسبب مــــــــــدارسنا ، ولكني هوّنت عليه الأمر وطلبت منه ألا يقلق علينا فقد عوّدنا أبـي الراحل الإعتماد على أنفسنا في كــل شيء وأحاطنا بسياج منيع من حب الناس والمعاملة الطيبة مع الجميع ،وإنصرف جدي وخـرجت لأوصله إلى محطة السكة الحديد ففوجئت به يتوقف أمـــام باب شقة جيراننا المقابلين لنا الذين لم يتركونا لحظة منذ وفاة أبينا ،
وطــــرق بابهم فخرج إليه جارنا وزوجته الفاضلة وقال لهم أنــــــه يشكرهما كثيراً على حنان قلبيهما على هذين الولدين اليتيمين ويدعو لهــما بالصحة وخير الجزاء، ثـــم يطالبهما بأن يكملا جميلهما بالسؤال عنّا كل حين وبكى جدي وهو يقول ذلك فسالت دموع جــارتنا الطيبة وتوارت خلف الباب وأكد له جارنا الطيب أننا أمانة في عنقه أمـام الله وطمأنه كثيراً ،وسافر جــدي وامتثلنا لما جرت به إرادة الله وواجهنا حياتنا الجديدة ،ولكن المشكلة الوحيدة التي تؤرقني هـي خوف أخي أكرم الدائم ،فهو يخاف من كل شىء ،يخاف مـــــــــن المستقبل ،
يخاف من الوحدة ،يخاف حتى من الناس !!
تلك كانت قصة اليتيمين أسعد وأكرم اللذان أقـــــول لهما لا تحزنا إن الله معكما وتأكدا بأن مشيئة الله فوق كل شيء وأن بذرة الخير التي بذرها فيكما أبيكما الراحل ستؤتي ثمارها في حب الناس لكمــــا وإحاطتكم برعايتهم ،فلن يكن الغد أسوء من اليوم أو الأمس بالنسبة لكما بأي حال من الأحوال بإذن الله ،فلقد أديتما ضريبة الألـــم مضاعفة خلال عمركما الصغير ،وأدعوك يا أسعد لإلتــماس العذر لأخيك الصغير أكــــــرم فقد أكسبته الظروف الأليمة التي واجهتماها نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل والخوف من المجهول ،فحـــــــاول أن تعطيه جرعات مكثفة مــــــن الثقة بالنفس وحاول إقناعه بإسترجاع قصة أفضل الخلق أجمعين سيدنا محمــــد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ذلك اليتيم العظيم الذي غيّر مجرى التاريخ ووجــده ربه يتيماً فآوى ووجده عائلاً فأغنى ووجده ضالاً فهدى وهدى بـــــه البشرية جمعاء .
وعلينا جميعاً أن نصمد لإبتلاءات الحياة ونصبر صبر الأنبياء وأولــى العزم من الرسل
وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ـ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون