دائمًا ما يستخدم البشر الرسائل البريدية للتواصل منذ عقود طويلة ، لإرسال بعض الأشياء المهمة عبر العالم ، ولكن هل علينا الحذر عند فتحنا لتلك الرسائل ؟ يبدو ذلك لأن الغريب ما حدث مذ سنوات حيث تم إرسال رسائل عبر البريد بها مرض قاتل ، وقد بدأت القصة من هنا حينما وصل الأميركي بوب ستيفنز إلى مستشفى في فلوريدا في الساعات الأولى من صباح يوم 2 أكتوبر
تشرين الأول عام 2001م .وقد اعتقد أطباء غرفة الطوارئ أن المصور الصحفي البالغ من العمر 62 عامًا قد يعاني من التهاب السحايا ، لكن عندما نظر أحد أخصائي الأمراض المعدية في السائل الشوكي من ستيفنز تحت المجهر ، أدرك أن هناك احتمالًا آخر وبالفعل أكدت الاختبارات المعملية ذلك ، وفي الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) ، تم تشخيص حالة ستيفنز باستنشاق الجمرة الخبيثة ، وهو مرض بكتيري تم اكتشافه في المقام الأول في المواشي .وقد اعترف مركز السيطرة على الأمراض بأميركا (CDC) بأنه عامل محتمل للإرهاب البيولوجي ، وبعد شهرين مات ستيفنز وأربعة أشخاص آخرين بعد استنشاقهم الجمرة الخبيثة ، كما أصيب 17 آخرون إما عن طريق استنشاق الجمرة الخبيثة أو إصابة جلدهم ، وقد وصلت الجراثيم المميتة عبر سلسلة من الرسائل المرسلة بالبريد إلى مواقع متعددة في أربع ولايات أمريكية ، وهي (فلوريدا ونيويورك ونيوجيرسي وكونيتيكت) وواشنطن العاصمة .وانتشرت موجة جديدة من الهلع عبر الدولة التي عانت بالفعل من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية قبل أسابيع فقط ، وعندما تم اكتشاف الجمرة الخبيثة في مكان عمل ستيفنز ، تعرض اثنين آخرين من زملائه للإصابة بالجمرة الخبيثة ، وحاولت سلطات ولاية فلوريدا (بما في ذلك حاكم الولاية آنذاك جيب بوش) في البداية تهدئة الجمهور ، بإصرارهم على عدم وجود ارتباط لتلك الهجمات بالإرهاب .ويحكي ليونارد كول هذا الخبير في طب الإرهاب البيولوجي ويقول : إن اليوم الأول أو اليومين التاليين لهذا الإعلان ، كانا يحويان على كلام إنكار بأن هذا كان مرتبطًا بأي حدث إرهابي ، ولكن نوعًا ما كان هناك تفشيًا غريبًا لرسائل الجمرة الخبيثة ، لكن مع ظهور المزيد من المعلومات أصبح من الواضح أنه كان هناك بعض الرسائل المعتمدة من الجمرة الخبيثة .وبدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي) تحقيقًا ، وبحلول أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) ، عُثر على ثلاثة من الرسائل التي تحتوي على جراثيم الجمرة الخبيثة ، بما في ذلك الرسائل المرسلة إلى مكتب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ توم داشل في واشنطن العاصمة ، ونيويورك بوست وإن بي سي في مدينة نيويورك .وزاد الغضب العام فقط بعد أن قررت سلطات إنفاذ القانون أن المجموعة الأولى من الرسائل الموثقة بالجمرة الخبيثة ، قد تم نشرها من صندوق بريد في نيوجيرسي في 18 سبتمبر 2011م ، أي بعد أسبوع واحد فقط من هجمات 11 سبتمبر ، حيث تم إرسال مجموعة ثانية من الرسائل بالبريد في 9 أكتوبر ، بالإضافة إلى مسحوق الجمرة الخبيثة وكانت بعض الرسائل تحتوي أيضًا على ملاحظات تهديديه .وقد زاد القلق بشأن الإرهاب البيولوجي في السنوات التي سبقت هجمات الجمرة الخبيثة ، بالرغم من زيادة الوعي والتدريب على التعامل مع الجمرة الخبيثة وغيرها من “العوامل المختارة” ، أو تلك العوامل البيولوجية (البكتيريا والفطريات والفيروسات) المعروفة بأنها أسلحة محتملة ، وقد ساعد هذا التركيز المتزايد مسئولي الصحة على الاستجابة بشكل أكثر فاعلية للهجمات مما كان بوسعهم القيام به .و في أوائل عام 2002م أعلن الرئيس بوش أنه سيطلب حوالي 11 مليار دولار خلال العامين القادمين ، من أجل حماية الدولة من الإرهاب البيولوجي وفي هذه الأثناء واصل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) تحقيقاته ، مع التركيز في منتصف عام 2002م على الدكتور ستيفن توفيل ، وهو عالم كان يعمل في السابق في معهد الأبحاث الطبية للأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي في فورت ديتريك بولاية ماريلاند .والذي أبقى على مخزون الجمرة الخبيثة وعرف توفيل بأنه “شخص ذو أهمية” في الهجمات ، ولكنه واصل إثبات براءته وبالفعل تمت تبرئته في النهاية ، وقد نجح في مقاضاة وزارة العدل الأمريكية بتهمة التشهير ، ففاز بمبلغ 5.8 مليون دولار في عام 2008م ، ثم قام الباحثون في مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بالشك في عالِم آخر ، هو الدكتور بروس إ. إفينز ، الذي كان يعمل أيضًا في USAMRIID .وكان يحاول تطوير لقاح أكثر فعالية ضد الأنثراكس ، فوضع تحت المراقبة على مدار 24 ساعة وحظر من المختبرات ، حيث كان قد أمضى حوالي 30 عامًا من عمره فيها ، ووضع ايفينز بالمشفي لمعاناته من الاكتئاب والقلق ، وفي يوليو 2008م انتحر عن طريق أخذ جرعة قاتلة من عقار الاسيتامينوفين (تايلينول) .وفي فبراير
شباط 2018م أغلق مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI تحقيقاته في هجمات الجمرة الخبيثة ، بعد أكثر من ثماني سنوات وأصدر تقريرًا مؤلفًا من 92 صفحة خلص إلى أن إيفينز نفذ الهجمات بالكامل من تلقاء نفسه ، لكن نتائج البحث شابها الشك فيما بعد من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم ، التي أصدرت دراسة في عام 2011م حيث قررت أن الأدلة العلمية إن كانت تدعم فكرة أن إيفينز ربما كان هو الجاني ، فإنها لا تثبت ذلك بشكل قاطع .ويقول كول الخبير في الإرهاب البيولوجي : إذا كانت هجمات الأنثراكس عام 2001م قد شدت انتباه الأمة إلى حماية نفسها ، ضد الأعمال المستقبلية للإرهاب البيولوجي ، فإن هذا التركيز قد تعثر في العقود التي تلت ذلك أي بعد وقوع الهجمات مباشرة ، ويكمل ويقول كنا على ارتفاع صارم في الاهتمام والتمويل والاستعداد والوعي العام ، ولكن كما هو الحال في الطبيعة البشرية ، أعتقد كلما كنت بعيدًا عن الوقت الفعلي للأحداث ، كلما قل اهتمام الناس بها” .وسواء كنا مستعدين أم لا فإن التهديد بهجوم بيولوجي آخر لا يزال حقيقيًا ، وفي أواخر سبتمبر 2018م أرسلت رسائل بالبريد إلى البنتاجون ، التي ورد أنها تحتوي على مادة الريسين ، وهو سم مستخلص من حبوب الذرة التي استخدمت في هجمات إرهابية بيولوجية سابقة ، وهكذا يبدو أن خطر الهجمات البيولوجية سيظل قائمًا .