تتركز السياحة دائمًا حول الشمس والبحر والرمال واستكشاف الطبيعة والتاريخ ، ولكن هناك نوع أخر أيضًا من السياحة ، وهي السياحة المظلمة والتي تعتبر بعيدة كل البعد عن المرح أو السعادة ، ولكنها تتركز حول استكشاف شيء بشع وخطير وهو المشرحة ، وقد انتشرت تلك الظاهرة المزعجة في القرن التاسع عشر ، حيث قام الكثير من الزوار الإنجليز لباريس بتغير خططهم وبدلًا من اكتشاف المعالم السياحية الشهيرة لباريس كانوا يتوجهون مع الحشود لمشاهدة عرض محاني في المشرحة !يقول تيريز راكون زولا في وصف تلك الظاهرة : ” إن المشرحة في متناول يد الجميع ، الفقراء والأغنياء ، حيث الباب مفتوح لأي شخص يرغب في الدخول ، ولها معجبين يجوبون طرقاتها لمشاهدة الموت ، وعندما تكون الألواح فارغة يشعر الزوار بخيبة أمل ، وعندما يكون هناك عرض للجسد البشري يتزاحم الزوار ليقدموا مشاعر رخيصة من الفرح والخوف ثم يصفقون أو يسخرون ، كما لو كانوا في المسرح ، ثم يرحلون ، معلنون أن المشرحة كانت ناجحة اليوم ! ” .وكانت مشرحة باريس تعرض بانتظام في المجلات وكتب السفر ، وكان قليلًا ما يحظى هذا الأمر بأي رفض أخلاقي لاستراق النظر نحو الموتى وانتهاك حرمة الموت ، ولكن كيف أصبح هذا المكان مزارًا عامًا ، وهل كان هناك غرض أخر من إنشاء هذا المكان الأكثر رعبَا في العالم ؟قصة المشرحة من البداية :
في باريس أثناء العصور الوسطى ، كانت هناك مشكلة نحو ما يجب عمله مع الجثث المجهولة ، ولكن في وقت لاحق وبالتحديد في عهد لويس الرابع عشر ، تم تأسيس ممارسة عرض الموتى للتعرف عليهم ، وفي عام 1718م تم تحويل سجن شاليط إلى مشرحة باريس ، حيث تم استخدامه لوضع جثث الموتى الذين يتم العثور عليهم في الشوارع أو غرقى ، وفي الواقع كان معظم نزلاء المشرحة من الغرقى .وفي عام ولكن كان المسئولين عن المشرحة هم نفسهم المسئولين عن السجون ، والذين لم تكن لديهم أي فكرة عن طريقة حفظ الموتى ، ولذلك كثيرًا ما كانت الجثث تلقى في أقوام على الأرض ، وكانت تتعرض للتعفن ، بينما كان الزوار التعساء يتعرضون للأبخرة الضارة أثناء محاولة التعرف على زويهم .وأثناء الثورة الفرنسية سقط سجن شاليط بسبب علاقته بالنظام الملكي الفرنسي وأغلق في عام 1792م ، ولكن قبل أن يستضيف جثث الحراس السبعة الذين سقطوا أثناء اقتحام سجن الباستيل وكانت حالتهم مروعة .بعد أن ازداد التحضر في باريس في القرن التاسع عشر زادت هجرة الكثير من الناس إلى باريس ، وهذا بدوره أدى لزيادة الجثث المجهولة بين الغرباء ، وهذا بدوره أدى لظهور مشكلة إدارية مرة أخرى حول كيفية التعرف على أصحاب الجثث المجهولة التي استمرت في الظهور في شوارع باريس وفي نهر السين .لذلك في عام 1804م تم بناء مشرحة جديدة بأمر من نابليون ، وقم بناء المشرحة الجديدة في موقع قريب من نهر السين _ المورد الأساسي للجثث ، وتم بباء مبنى كلاسيكي في وسط الحي الإداري ، وكان واضحًا للغاية ويقع على طريق مزدحم وقريب من مقر الشرطة .ولأن هذا المبنى الجديد كان أفضل حالًا من السابق ، فقد جذب آلاف المشاهدين ، ولكنه كان لا يزال يعاني من المشاكل ، حيث لم يكن هناك مدخل خاص لإدخال الجثث بعيدًا عن مداخل الزوار ، وكان مليء برائحة كيماوية رهيبة ، وأيضًا بالفئران .ولكن في عام 1850م بعد أن تولى البارون جورج هوسمان حكم باريس ، قرر إعادة تطوير المدينة ، فهدم المشرحة القديمة ، وقام ببناء أخرى جديدة عام 1864م أفضل حالًا خلف كاتدرائية نوتردام ، وكانت الجديد أكثر اتساعًا من القديمة ، وقد زودت بمرافق أكثر تقدمًا ، منها غرف للتشريح وموظفين للتسجيل ومغسلة للملابس وأكثر من ذلك مدخل خلفي للجثث .وفي عام 1870م تم استخدام التصوير الفوتوغرافي لعرض الجثث بدلًا من العرض المباشر ، وفي عام 1880م تم إدخال تقنية التبريد إلى المشرحة ، ومع ذلك ظلت زيارة المشرحة مرتبطة في ذهن العامة بالتسلية ، وكانت الصحافة المحلية تغذي هذا الأمر ، حيث كانت تنشر قصص الانتحار والقتل والمآسي الإنسانية التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمشرحة .فقد كان زائر المشرحة في ستينيات القرن التاسع عشر يرى مشهدًا كبيرًا من الدراما اليومية ، وقد كان الجسد المعروض سببًا للاحتفال حتى أن الزوار كانوا يضطرون للانتظار عدة ساعات حتى يتمكنوا من الدخول ، وفي اليوم الواحد كان يأتي عشرات لآلاف من الرجال والنساء والأطفال لمشاهدة الجثث ، وخاصة التي كانت مرتبطة بجرائم وأحداث عامة .على سبيل المثال قام رجل بتمزيق حبيبته بسكين وقطع جثتها ونقلها إلى نهر السين في حزمتين ، والحالة الأخرى لفتاة عمرها 18 شهرًا وجدت ميتة أسفل درج أحد المنازل ، كلتا الحالتين تمت تغطيهما إعلاميًا بدرجة واسعة مما جلب آلاف الزوار إلى المشرحة لمشاهدة الجثث والتكهن بظروف موتهم ، ومن الطريف في الأمر أنه بالرغم من توافد آلاف الزوار لمشاهدة جثة الضحية التي قطعها حبيبها ، فإن من حضروا إعدام القاتل العلني كانوا أقل من 600 فرد .إسدال الستار على مشرحة باريس :
وعلى الرغم من بشاعة فكرة مشرحة باريس فقد كانت أكثر من مجرد مكان لعرض الجثث للزوار ، ولكنها ساهمت أيضًا في إدخال تقنية التصوير الفوتوغرافي إلى الطب الشرعي وإدخال التبريد والتركيز أكثر على عمليات التشريح ، وتطوير أساليب الشرطة في البحث الجنائي .وفي عام 1907م أخيرًا تم إغلاق مشرحة باريس بسبب مخاوف من النظافة ، وأيضًا الاهتمام بالقضايا الأخلاقية ، وإدخال تقنيات أكثر علمية في الطب الشرعي ، ومنح المشرحة طابع مهني أكثر من مجرد مكان للتسلية ، وأيضًا بسبب التغيرات الجذرية التي حدثت في المجتمع بعد الثورة الصناعية ، وتم استبدالها بمعهد الطب الشرعي ، ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن نسيان التاريخ المروع لمشرحة باريس .