ينتهي المطبخ بوجود غرفة ، والتي تطل على تلك المدينة التي لا يُرى منها سوى سطوح المنازل ، تلك المنازل التي تتسابق في ارتفاعها مع أشجار السّرو المتخامة لها ، وحينما توّجه نظرك في أي مكان فإنه يقع على سطوح العمارات ، والتي بدت بلون العشب الذي يحمل حنينًا إلى التراب .كانت هناك أجساد تعلو السطوح ، وتشبه ف يشكلها وحجمها الصناديق ، حتى وإن اختلفت مهامها ، حيث كان منها ما هو محركات للسيارات ، ومنها أيضًا سخانات شمسية تقوم بتحويل الإشعاع الشمسي إلى طاقة حرارية ، أما الجزء المتبقي من السطح فإنه يحمل هوائيات والتي تم تحويلها إلى طاقة كهرومغناطيسية من أجل البث التلفزي ، والتي إن اختلفت في اتجاهها وحجمها فإنها اتفقت في استقبال البث الإذاعي والتلفزي من خلال جودة عالية ، حيث تقوم بتسلية من كان به ضيقان (ضيق المكان وضيق التنفس) .نظرت ببصري في كل الاتجاهات من الشرق والغرب والشمال والجنوب وما بينهم ، ولكنني عبثًا رغبت في تغيير المشهد ، حيث أن الجدران والسطوح حاصروني ، ثم هبّت زوبعة اخترقت سكون الصبح ،ولولا إصدار أصوات المنبهات من بعض السيارات لخلتها عاصفة هوجاء ، ثم استوقفني صوت منبه سيارة أحد السكان بالعمارة التي أسكن بها ، حيث كان يستحث أتباع السائق ، ثم ذهبت سيدة برفقة ولدين متفاوتين في العمر إلى السيارة .كان أحد الولدين قصير القامة يرتدي معطفًا ، وكانت رأسه مدسوسة داخل قلنسوة ، فاختفت عني تفاصيل معالم وجهه ، ثم تبعه شاب بدا لي أنه هو الابن الأكبر ، وكان يحمل حاسوبًا وكأنه طالب في إحدى الكليات بتونس العاصمة ، والتحقت بهم أيضًا طفلة صغيرة كانت متباطئة الحركة ترتدي معطفًا لونه أحمر قاني ، وقد ظهرت منه خصلات من شعرها الأسود الفاحم الطويل ، لتبدو كزهرة شقائق النعمان .انطلقت السيارة بعد أن ركب الجميع ، إنه حالهم كل يوم لن يعودوا إلا في ساعات متأخرة من النهار ، حيث أن جيراني لا زالوا يواصلون صراعهم مع الحياة العملية بجهاد ، حيث يبدؤون يومهم مع حركة المرور والبحث عن مكان يركنون فيه السيارة بعد أن يقوموا بتوصيل أبنائهم إلى الروضة والمدارس والجامعات ، فقلت لجارتي :”إن المترو والحافلات وسائل نقل عمومية ، لماذا لا يركبها الأبناء أفضل ، وهم بهذه الطريقة يعتمدون على أنفسهم؟”.أجابتني جارتي بقولها :”هم لا يركبون هذه المواصلات هروبًا من المصروفات ، حيث أن ميزانية الأسرة محدودة ، ولولا وجود قروض من البنك لكان كل الموظفين يذوقون الويلات من ارتفاع الأسعار وغيرها من دفع الفواتير ، فالجميع يلهثون وراء الدفع والتسديد ، ثم قطع حديثنا أصوات أطفال ، فأسرعت إلى الشرفة للبحث عنهم ، وكلي حنين إلى الحركة .كنت أستمتع بمراقبة هؤلاء الأطفال ، فإنهم في مثل عمري ، وقد فروا من ضيق السكن إلى فضاء لم يكن أوسع ، وقد قام الرصيف باحتضان كرتهم البرتقالية التي لم يطل بهم الجري خلفها ، حيث أنها توارت تحت سيارة راكنة أمام العمارة ، وحينها لم يجدوا خيارًا إلا أن يلعبوا لعبة التسابق أو الغميضة ، ويكون أحدهم مغمض العينين وينادي عليه الآخرون من كل جهة ، بينما هو يجري في كل الاتجاهات ليقبض على أحدهم كي يحل محله ، وهكذا نلعب نحن في قريتنا وفي بطحاء الحي نتسابق ونجري وتداعب الرمال أرجلنا كما تداعبها الأرجل .القصة من أدب الأطفال العربي للكاتبة : فاطمة حامدي